للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرابعة: حكي أن بشرًا كان في زمن لهوه في دار، وعنده ندماء يطيبون، فاجتاز منهم رجل صالح فدق الباب، فخرجت إليه جارية، فقال لها: صاحب هذه الدار حر أم عبد؟ قالت: بل حر قال: صدقت؛ لو كان عبدًا لاستعمل أدب العبودية، وترك اللهو والطرب، فسمع بشر (١) محاورته لها، فسارع إلى الباب حافيًا حاسرًا، وقد ولى الرجل، فقال لها: ويحك من كلمك، فأخبرته بما قال، فتبعه بشر حتى لحقه، وقال له: يا سيدي أعد على كلامك، فأعاده، فمرغ بشر خده في الأرض، وقال: بل عبد، عبد، عبد، ثم هام على وجهه حافيًا حاسرًا حتى عُرف بالحافي، فقيل له: لم لا تلبس نعلين؟ فقال: لأني ما صالحت مولاي إلا وأنا حاف، فلا أزال عليها حتى أموت، وحكي عنه أنه سئل عن بدء أمره، وشهرة اسمه بين الناس فقال: هذا من فضل اللَّه، كنت رجلًا عبارًا صاحب عصبية، فوجدت قرطاسًا في الطريق فرفعته، فإذا فيه البسملة، فمسحته وجعلته في جيبي، وكان عندي درهمان لا أملك غيرهما، فشريت بهما غالية، وطيبت بها القرطاس، فرأيت في المنام تلك الليلة كأن قائلًا يقول: يا بشر لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة: (٢)

تتوب من الذنوب إذا مرضت … وترجع للذنوب إذا برئتا

إذا ما الضر مسك أنت باك … وأخبث ما تكون إذا قويتا

فكم من كربة نجاك منها … وكم كشفت البلاء إذا بليتا


(١) بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال، أبو نصر المروزي المعروف بالحافي الزاهد البغدادي، ثقة قدوة، أخرج له أبو داود في مسائله، والنسائي في مسند علي، توفي سنة [٢٢٧]. ترجمه: تهذيب التهذيب [١/ ٤٤٤]، تقريب التهذيب [١/ ٩٨]، تاريخ البخاري الكبير [٢/ ٨٥]؛ الجرح والتعديل [٢/ ٣٥٦]، ميزان الاعتدال [١/ ٣٢٨]، العبر [١/ ٣٩٩]، الذيل على الكاشف [١٢٥]، طبقات الصوفية [٣٩]، مجمع الزوائد [٧/ ٥]، الحلية [٨/ ٣٣٦]، طبقات ابن سعد [١/ ٢٩٥]، سير الأعلام [١٠/ ٤٦٩]، وفيات الأعيان [١/ ٢٧٤].
(٢) قريبًا من ذلك ذكر الذهبي في تاريخ الإسلام: كان بشر بن الحارث شاطرًا يجرح بالحديد، وكان سبب توبته أنه وجد قرطاسًا في أتون حمام فيه "بسم اللَّه الرحمن الرحيم" فعظم ذلك عليه، ورفع طرفه إلى السماء وقال: سيدي اسمك هنا ملقى، فرفعه، وقلع عنه السحاة التي هو فيها، وأعطى عطارًا درهمًا فاشترى له غالية لم يكن مع سواه، ولطخ بها تلك السحاة وأدخله شق حائط وانصرف إلى زجاج كان يجالسه، فقال له الزجاج: واللَّه يا أخي لقد رأيت لك في هذه الليلة رؤيا ما أقولها حتى تحدثني ما فعلت بينك وبين اللَّه، فذكر له شأن الورقة، فقال: رأيت كأن قائلًا يقول لي في المنام: قل لبشر: ترفع لنا اسمًا من الأرض إجلالًا أن يداس، لننوهن باسمك في الدنيا والآخرة.
تاريخ الإسلام، وفيات [٢٢١ - ٢٣٠].

<<  <  ج: ص:  >  >>