أما تخشى بأن تأتي المنايا … وأنت على الخطايا قد ذهبتا
وتنسى فضل رب جاد لطفا … عليك ولا ارعويت ولا خثئتا
وكم عاهدت ثم نقضت عهدا … وأنت لكل معروف نسيتا
فدارك قبل نقلك عن ديارك … إلى قبر إليه قد نعيتا
الخامسة: حكي عن بعضهم أنه رؤي بعد موته في المنام فقيل له: ما فعل اللَّه بك؟ قال: أعطاني كتابي بيميني، فمررت بزلة فاستحييت أن أذكرها، فقلت: إلهي لا تفضحني، فقال: حين عملتها ولم تستحي مني لم أفضحك، أفأفضحك وأنت تستحي مني، قد غفرت لك زلتك، وأدخلتك الجنة برحمتي وكرمي.
فسبحان من أبدى جميل جماله … على عبده لطفًا وجود جواد
وأخفى المساوئ والعيوب تكرمًا … وحلما تعالى ساتر العباد
السادسة: مر عليّ ﵄ ببعض شوارع البصرة، فإذا هو بحلقة كبيرة، والناس حولها يمدون الأعناق ويشخصون إليها بالأحداق، فمضى إليهم لينظر ما سبب اجتماعهم، وإذا فيهم شاب حسن الشباب نقي الثياب، عليه هيئة الوقار، وسكينة الأخيار، وهو جالس على كرسي، والناس يأتونه بقوارير من الماء، وهو ينظرها ويصف لهم ما يوافق من أنواع الدواء، فتقدم إليه وقال: السلام عليك أيها الطبيب (١) ورحمة اللَّه وبركاته، هل عندك شيء من أدوية الذنوب، فقد أعيا الناس دواءها فأطرق برأسه ولم يتكلم، فناداه ثانية وثالثة كذلك، فرفع الطبيب رأسه بعد ما رد السلام وقال: أوتعرف أدوية الذنوب، بارك اللَّه فيك؟ قال: صف وباللَّه التوفيق، قال: تعمد إلى بستان الإيمان، فتأخذ منه عروق النية، وحب الندامة، وورق التدبير، وبذر الورع، وثمر العفة، وأغصان اليقين، ولب الإخلاص، وقشور الاجتهاد، وعروق التوكل، وأكمام الاعتبار، وسيسبان الإنابة، وترياف التواضع، تأخذ هذه الأدوية بقلب حاضر، وفهم واقد، بأنامل التصريف، وكف التوفيق، ثم تضعها في طبق التحقيق، ثم تغسلها بماء الدموع، ثم تصفيها في قدر الرجاء، ثم توقد عليها
(١) في مرض ابن مسعود الذي توفي فيه فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: ألا آمر لك بعطاه؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك من بعدك، قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي بقرآن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول اللَّه ﷺ يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدًا". تفسير ابن كثير [٤/ ٢٨١].