للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بنار الشوق حتى ترعى زبد الحكمة، ثم تفرغها في صحاف الرضا، ثم تروح عليها بمرواح الاستغفار (١)، ينعقد لك من ذلك شربة جدة، ثم تشربها في مكان لا يراك فيه أحد إلا مولاك، فإن ذلك يزيل عنك الذنوب، فلا يبقى عليك ذنب، ثم أنشأ يقول:

يا طالب الحوراء في حسنها … شمر فتقوى اللَّه من مهرها

وكن مجدًا وانيا … وجاهد النفس على صبرها

ثم شهق شهقة فارق الدنيا، فقال عليّ: واللَّه إنك لطبيب الدنيا والآخرة. قال ذو النون: إن للَّه عبادا نصبوا أشجار الخطايا نصب أعينهم، وسقوها بماء التوبة، فأثمرت ندما وحزنا، فجنوا من غير جنون، وإنهم لهم العارفون (٢) باللَّه ورسوله، ثم شربوا بكأس الصفا، فوزنوا الصبر على طول البلاء، ثم تولهت قلوبهم في الملكوت، وجالت فكرتهم بين سرايا حجب الجبروت، واستظلوا تحت رواق الندم، فقرأوا صحيفة الخطايا، فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع، فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا، واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بجبل النجاة، وعروة السلامة وسرحت أرواحهم في العلا حتى أناخوا في رياض النعيم، وخاضوا في بحر الحياة، وردموا خنادق الجزع، وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم، واستقوا من غدير الحكمة، وركبوا في سفينة العصمة، وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الرَّاحة، ومعدن العز والكرامة.

ركب المحب إلى الحبيب سفينة … تجري من الخطرات في أمواج

في (سرسر) (٣) الشر سرا أقلعت … في لج بحر زاخر عجَّاج

يا حسنها تجري به متفردا … بعلومه في جنح ليل داج

فالقلب مشكاة وفيه زجاجة … قد علقت بسلاسل المنهاج


(١) روى أبو داود في سننه [١٥١٨] عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه : "من لزم الاستغفار جعل اللَّه له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب".
(٢) لما سأل المتوكل ذا النون فقال: يا أبا الفيض صف لي أولياء اللَّه. قال: يا أمير المؤمنين هم قوم ألبسهم اللَّه النور الساطع من محبته، وجللهم بالبهاء من أردية كرامته، ووضع على مفارقهم تيجان مسرته، ونشر لهم المحبة في قلوب خليقته، ثم أخرجهم وقد ودع القلوب ذخائر الغيوب، فهي معلمة بمواصلة المحبوب، فقلوبهم إليه سائرة، وأعينهم إلى عظيم جلاله ناظرة، ثم أجلسهم بعد أن أحسن إليهم على كراسي طلب المعرفة بالدواء، وعرفهم منابت الأدواء، وجعل تلاميذهم أهل الورع والتقى. . . إلى آخر كلامه. تاريخ الإسلام، وفيات [٢٤١ - ٢٥٠].
(٣) كذا بالأصل.

<<  <  ج: ص:  >  >>