في روضة خضراء عليه حلتان خضراوتان، وهو قائم يتلو القرآن، فقلت: ألست صاحبي بالأمس؟ قال: بلى، قلت: فما صيرك إلى ما أرى؟!! قال: وردت مع الصابرين على درجة لم ينالوها إلا بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء.
الثانية: عن معروف الكرخي (١) أنه توفي له ولد فلم يحزن عليه، فقيل له في ذلك، فقال: رأيت جوار اللَّه وثوابه خيرًا له مني.
الثالثة: عن أبي علي الرازي قال: صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة، فما رأيته ضاحكًا إلا يوم أن مات ولده، فقيل له في ذلك، فقال: إن اللَّه أحب أمرًا فأحببته.
الرابعة: عن المعافي بن عمران قال: دخلت على فتح الموصلي فرأيته قاعدًا في الشمس، وصبية له عريانة، وابن له مريض، فقلت: ائذن لي حتى أكسو هذه الصبية، قال: لا، قلت: ولم؟ قال: دعها حتى يرى اللَّه صبرها وصبري عليها فيرحمني، قال: فجاوزت إلى الصبي، وقعدت عند رأسه فقلت: أتشتهي شيئًا؟ قال: ومن أنت؟ قلت: المعافي، فرفع رأسه إلى السماء، فقال مني الصبر، ومنك البلاء.
الخامسة: عن ذي النون المصري قال: رأيت بعض أصحابي في المنام، فقلت: ما فعل بك؟ قال: غفر لي ببركتك، ومحبتي فيك، فأدخلني الجنة، وعرض على منازلي فيها، قال ذلك ووجهه حزين، قلت: مالي أراك حزينًا؟ فتنفس الصعداء، ثم قال: لا أزال حزينًا إلى يوم القيامة، قلت: ولم؟ قال: لما رأيت منازلي في الجنة رفعت لي مقامات في عليين، فلما رأيتها فرحت وهممت بدخولها، فناداني مناد من فوقها: اصرفوه عنها، فليس هذه له، إنما هي لمن أمضى في سبيل اللَّه - يعني كلما أصابه شيء من أمور الدنيا، قال: في سبيل اللَّه، ثم لا يرجع فيه، فلو كنت أمضيت
(١) معروف الكرخي، هو زاهد العراف، وشيخ الوقت أبو محفوظ معروف بن الفيرزان، وقيل: ابن فيروز من أهل كرخ بغداد، وقيل: كنيته أبو الحسن، وكان أبوه من أعمال واسط من الصابئة، وقد ذكر معروف عند أحمد بن حنبل فقالوا: قصير العلم، فقال للقائل: أمسك، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟ ومن قول معروف: إذا أراد اللَّه بعبد شرًا أغلق عنه باب العمل، وفتح عليه باب الجدل، توفي سنة [٢٠٠]. تاريخ الإسلام للذهبي، وفيات [١٩١ - ٢٠٠]. فتح المولى، هو فتح بن محمد بن وشاح الأزدي الموصلي الزاهد أحد العارفين، ذكر المعافي ابن عمران شيخ الموصل أنه لقي ثمانمائة شيخ ما فيهم أعقل من فتح، وكان مشهورًا بالعبادة والفضل، وهو فتح الموصلي الكبير لا فتح الصغير، وكان كثير البكاء من خشية اللَّه، ملازمًا لقيام الليل، أرسل إليه المعافي بألف درهم فردها وأخذ منها درهمًا واحدًا مع شدة فاقة أهله، توفي سنة [١٦٥]. تاريخ الإسلام، وفيات [١٦١ - ١٧٠].