للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال: ولم يزل ذلك الشاب في محلتنا حتى انتهى معنا إلى اليمن، فسألنا عن مجلس الشيخ فأرشدنا إليه فطرقنا الباب، فخرج إلينا، فكأنما يخبر عن أهل القبور فجلسنا إليه، فبدأه الشاب بالسلام والكلام.

فصافحه وأبدى له البشر والترحيب من دوننا، وسلمنا كلنا عليه.

ثم تقدم إليه الشاب وقال: يا سيدي إن اللَّه قد جعلك وأمثالك أطباء لأسقام القلوب، ومعالجين لأوجاع الذنوب، وبي جرح قد تعل، وداء قد استمكن وأعضل.

فإن رأيت أن تتلطف بي ببعض مراهمك فافعل، فأنشأ الشيخ يقول:-

إن داء القلوب داء عظيم … كيف لي بالخلاص من داء ذنبي

هل طبيب مناصح لي فإني … أعجز الخلق والأطباء طِبيِّ

آه مَا حُجلتي ويا طول حزني … من ذنوبي إذا وقفت لربي

وانقطاع الجواب مني ولم لا … وبلائي قد حل كل من خطبي

فقال الشاب للشيخ: إن رأيت أن تتلطف بي ببعض مراهمك فأفعل.

فقال له الشيخ: أسأل عما بدا لك فقال له: ما علامة الخوف من اللَّه؟ قال: أن يؤمِّنك خوف اللَّه من كل خوف غير خوفه.

فانتفض الفتى جزعًا ثم خرّ مغشيًا عليه ساعة.

فلما أفاق قال: رحمك اللَّه متى يتيقن العبد خوفه من اللَّه؟ قال: إذا أنزل نفسه من الدنيا منزلة العليل السقيم فهو محمي من كل الطعام، مخافة طول السقام.

ويصبر على مضض الدوا، مخافة طول الضنا. فصاح الشاب صيحة ظننا إن روحه قد خرجت ثم قال: يرحمك اللَّه ما علامة المحبة للَّه؟ فقال: يا حبيبي إن درجة المحبة في اللَّه رفيعة فقال الشاب: أُحب أن تصفها لي فقال: يا حبيبي إن المحبين للَّه شق لهم عن قلوبهم فأبصروا بنور القلوب إلى جلال عظمة الإله المحبوب فصارت أرواحهم روحانية، وقلوبهم حجبية، وعقولهم سماوية، تسرح بين صفوف الملائكة الكرام وتشاهد تلك الأمور اليقين والعيان.

فعبدوه بمبلغ استطاعتهم له لا طمعًا في جنته، ولا خوفًا من ناره.

فشهق الشاب شهقة فمات فجعل الشيخ يقلبه ويبكي ويقول: هذا مصرع الخائفين هذه درجة المحبين، هذه روح حنت فأَنَّتْ، فسمعت فاشتاقت، فشهقت فماتت.

على عظم قدر المرء يعظم خوفه … فلا عالم إلا من اللَّه خائف

فآمن مكر اللَّه باللَّه جاهل … وخائف مكر اللَّه باللَّه عارف

<<  <  ج: ص:  >  >>