للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حالك؟ وكيف أنت؟.

قال: يا مالك كيف يكون حال من أمسى وأصبح يريد سفرًا بعيدًا بلا أُهبة ولا زاد، ويقدم على رب عدل حاكم بين العباد؟

ثم بكى بكاءًا شديدًا. فقلت: ما يُبكيك؟

فقال: واللَّه ما بكيت حرصًا على الدنيا ولا خوفًا من الموت والبلاء، ولكن بكيت ليوم مضى من عمري لم يحسن فيه عملي، أبكاني واللَّه قلة الزاد، وبعد المفازة، والعقبة الكؤود، ولا أدري بعد ذلك أصير إلى الجنة أم النار.

فسمعت منه كلام حكمة فقلت: إن الناس يزعمون أنك مجنون.

قال: وأنت واغتررت بما اغتر به بنو الدنيا.

ما بي من جنة ولكن حب مولاي خالط قلبي، وأحشائي، وهو بين لحمي ودمي وعظمي.

فأنا واللَّه من حبه هائم مشغوف، فقلت: يا سعدون لم لا تخالط الناس وتجالسهم.

فأنشأ يقول:

كن من الناس جانبا … وأرض باللَّه صاحبا

قلّب الناس كيف شئت … تجدهم عقاربا

ولبعضهم:

ومازلت مذ لاح المشيب بمفرقي … أفتش عن هذا الورى ثم أكشف

فما عرفت الناس إلا ذممتهم … جزى اللَّه خيرًا كل من لست أعرف

العاشرة: عن بعض أصحاب فتح الموصلي (١) قال:

دخلت يومًا عليه فوجدته وقد خالطت دموعه صُفرة فقلت له: باللَّه عليك يا سيدي فتح هل بكيت الدم قط؟

فقال: واللَّه لولا قسمك ما أخبرتك، بكيت بالدمع وبكيت بالدم.


(١) فتح الموصلي هو فتح بن محمد بن وشاح، الأزدي الموصلي، الزاهد، أحد العارفين، ذكر المعافى بن عمران، شيخ الموصل، أنه لقى ثمانمائة شيخ ما فيهم أعقل من فتح، وكان مشهورًا بالعبادة والفضل، وهو فتح الموصلي الكبير، لا فتح الصغير، ولقد بالغ الأزدي في "تاريخ المواصلة" في ترجمة هذا وجمع مناقبه، وكان كثير البكاء من خشية اللَّه، ملازمًا لقيام الليل، توفي سنة (١٦٥). [انظر تاريخ الإسلام وفيات (١٦١ - ١٧٠)].

<<  <  ج: ص:  >  >>