للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فالبراءة في حديث «أنا بريء من مقيم بين ظهراني المشركين تتراءى نارها» (١) هي براءة تبعة من إصابته حال حدوث حرب، فلا يلزم إثم ولا دية؛ لتعذر التمييز بين مشرك ومسلم مقيم بينهم.

ولأن الصحابة بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا في الحبشة مهاجرين الهجرتين واستمروا بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلزمهم بترك بلاد الكفر إلى المدينة كما ألزم من كان في مكه، وكانت الحبشة على النصرانية، فدل على جواز الإقامة في بلد غير مسلمة، ولا يقال هو منسوخ بحديث المنع؛ لعدم ثبوت التاريخ، بل هو دليل على ما قدمنا أنه نهى لرفع التبعية والمسئولية عن المقيم في بلد الحرب حال الحرب.

ولأنه لو حمل حديث المنع من الإقامة في بلاد الكفار على عمومه للزم وجوب هجرة المسلمين كافة إلى بلاد الإسلام، وهذه مشقة خارجة عن المعتاد، وقد نسخ هذا بـ «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» (٢).

فلو منع من أسلم من الإقامة في أهله وأرضه لشق ذلك على من أراد أن يسلم في أصقاع الأرض، وللزمه الهجرة، ولم يقل بهذا أحد من أهل الإسلام، ولأدى ذلك إلى الصد عن الدخول في الإسلام لهذه المشقة؛ لأن مفارقة الوطن والأهل من أعظم المشقات.


(١) - حديث «إني بريء .. » مختلف في وصله وإرساله، وهذه علة، وقد أخرجه الطبراني في أكبر معاجمه برقم ٢٢١٥ من حديث جرير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع إليهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر لهم بنصف العقل، وقال «إني بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين»، قالوا: يا رسول الله، ولم؟ قال «لا تراءى نارهما». قلت: وإسناده صحيح، وقد أعل بالإرسال كما سيأتي. وأخرجه الإمام أبو داود في السنن برقم ٢٦٤٥، بلفظ (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل قال فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لم قال لا تراءى ناراهما قال أبو داود رواه هشيم ومعمر وخالد الواسطي وجماعة لم يذكروا جريرا). قلت: وهذا يدل على ترجيح الإمام أبي داود للإرسال، وهو ما رجحه الترمذي والبخاري وظاهر صنيع النسائي، فقد أخرجه في السنن برقم ٤٧٨٠ مرسلا، ورواه الترمذي في السنن برقم ١٦٠٤ وبين الاختلاف فيه، وقال الحافظ في بلوغ المرام برقم ١٢٦٤: رواه الثلاثة وإسناده صحيح ورجح البخاري إرساله.
(٢) - سبق تخريجه.

<<  <  ج: ص:  >  >>