ومما لا دليل عليه اشتراط القبض في غير الطعام، فإن القبض في الطعام مذكور في الصحيحين، أما غيره فلا يصح فيه دليل، ولذلك اختلف فيه العلماء القدامى من الأئمة الأربعة وغيرهم على سبعة مذاهب، والاستدلال بحديث «إذا بعت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه» استدلال لا يصح؛ لأن هذه اللفظة شاذة ومعلة، واللفظة الصحيحة -عند التسليم بصحة حديث حكيم بن حزام- هي «لا تبع ما ليس عندك»، وإنما صححنا هذه اللفظة فقط لوجود شاهد لها من حديث عمرو بن شعيب ومع هذا فالخلاف في ضعفها معتبر فهي مضطربة معلة كما قرر ذلك كبار علماء الفن.
ولذلك اضطربت أقوال العلماء في اشتراط القبض على أقوال كثيرة، والصحيح منها ما دل عليه حديث الصحيحين، وهو الاشتراط في الطعام، لا في كل شيء، ولذلك أعرض البخاري ومسلم عن إخراج حديث القبض مع شدة حاجتهما للاستدلال به، وما ذلك إلا لاعتبار قوة إعلاله عندهما، وقد تتبعت طرقه وشواهده فوجدت أرجحية ما ذهب إليه البخاري ومسلم في ذلك.
٨ - ومما أضر بفقه المعاملات الفهم غير الصحيح للنصوص، كنص «لا تبع ما ليس عندك» على فرض صحته، وأنا وإن كنت قد رجحت الصحة لهذه اللفظة، ولكن يبقى في النفس شيء، على أن معناه هو (لا تبع ما لا تملك)، أما ما هو في ملكك وليس عندك في مجلس العقد فيصح لك بيعه، وقد اطلعت بعد هذا التقرير على أقوال لكبار العلماء وافقت في هذا ما ذهبوا إليه، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وقبله ابن حزم وغيرهما كثير.
ولا يصح الاستدلال به على بيع ما تملكه ولم تقبضه؛ لأن لغة العرب تأباه، وهذه الشريعة عربية، ولا يصح كذلك من باب المقاصد الشرعية التي أمرت بحفظ المال وجعلته أصلا من أصولها؛ لأن المقصود هو حفظ أموال وحقوق الخلق، فبيع ما لم تقبضه جائزوقد دخل في ملكك وهو مضمون في الغالب لا مرية في مضمونيته ومضمونية تسليمه للمشتري، وعلى هذا جرت كثير من تجارات العصر، ومنعها من منع لهذه العلة مستدلا بالزيادة الشاذة في حديث حكيم، أو مستنبطا ذلك من لفظة «لا تبع ما ليس عندك».