من علم بحصول مقصوده من هذا العلم جد واجتهد وأقبل على ذلك الشيء، فهذا الكلام يهز السامع ويجذب الراغب في اقتضاء العلم، ويحثه على الاستمساك بالكتاب المذكور، وفي طيه مدحه هذا التصنيف والتفخيم لقدره، ولهذا أردفه بقوله:(وليتلقّ بالقبول ما يرد من قبله).
وأما قوله:(وليكن لحسن الظّنّ آلفا ولدواعي الاستبعاد مخالفا) فكأنه - رحمه الله تعالى - لما وصف كتابه بما وصف، ووعد متأمله بما وعد، ملزما له بقبول ما يرد عليه منه، استشعر من النفوس منازعته في هذه الدعوى، وأنها لا توافق فيما ذكره - بل تستبعد - اشتمال الكتاب على هذه الصفات الجلى.
وتنكر أن يرتقي رتبة متأخر في العلم إلى هذا الحد، فقصد العظة والإرشاد لمن يتلجلج ذلك في صدره، وأمره بالإلف لحسن الظن، والمخالفة لما تحدث النفس به من استبعاد صدور مثل ذلك من متأخر.
ويجوز أن يكون قوله:(وليكن لحسن الظّنّ آلفا) مقصودا به ما قلناه، وأن يكون قوله:(ولدواعي الاستبعاد مخالفا) مقصودا به تحريك طالب العلم، فهو يحذره أن تتقاعس نفسه مستهولا ما يقدم عليه من المصنفات المعتبرة، فأمره أن يخالف ما عنده من دواعي الاستبعاد؛ لأنه إذا استبعد أمرا تقاعد عن تعاطيه فيفوته بسبب ذلك شيء كثير ولا يحصل على طائل. ويرجح هذا المعنى قوله بعد:(فقلّما حلي متحلّ بالاستبعاد - أي: باستبعاد حصول العلم له - إلا بالخيبة والإبعاد)، لكن قوله بعد ذلك:(وإذا كانت العلوم منحا إلهيّة) إلى آخره، يرجح المعنى الأول (١)؛ فينبغي التعويل عليه؛ ليحصل ارتباط الكلام ويكون كله نسقا وعلى هذا يكون المراد بالاستبعاد في كلامه استبعاد لظان وفاء صاحب الكتاب بما التزمه في كتابه المذكور.
(فقلّما حلي متحلّ بالاستبعاد إلّا بالخيبة والإبعاد) المراد بقلما: النفي ولهذا فرغ العامل معها لما بعد إلا والمعنى: ما حلي متحلّ بالاستبعاد إلا بكذا وكذا.
(١) وهو أنه يجب على طالب العلم ألا يكسل عن طلبه ظانّا منه أنه - وهو متأخر - لن يبلغ به المجد والعلا.