دخل العدو البلاد ووصل السلطان الناصر والأمراء إلى دمشق تكلموا فى أمر حضوره، فلم يعجب الأمراء حضوره وسيروا إليه، فطلبوا مماليكه وعرفوّه أنهم أعفوه من الحضور ليحفظ قلعتّه، فسير إليهم جماعة من مماليكه، فحضروا المصافّ، فلما اتفق ما اتفق، نزل من صرخد وسافر على البريد إلى مصر، وكان يجلس مع الأمير سيف الدين سلار والأمير ركن الدين بيبرس ويأخذ المرملة ويرمّل على العلامات التى يكتبها نائب السلطان، فكان سلاّر يسأله أن يعفيه من ذلك، وكان كتبغا يحلف أنه لا بد أن يفعله، فكانت الناس إذا رأوا ذلك يتعجبون من صنع الله تعالى وعظمة قدرته أن سلار وغيره من الأمراء الكبار وأصحاب الوظائف كانوا فى خدمة كتبغا وهو سلطان يتخدمون له ويتضرعون إليه فى الأمور، ثم قلب الله ذلك حتى صار كتبغا فى خدمة سلار الذى هو أمير وليس بسلطان، ويرمّل على ما يكتبه من العلامات، ويسأله فى أشغال كثيرة سؤال مملوك مخدومه، وهذا من غرائب الزمان وعجائب الدهر، فسبحان المعزّ والمذلّ.
ومن العجائب أن كتبغا هذا عرضوا عليه جوشنا (١) فى أيام دولته وقد أعطى فيه بيبرس الجاشنكير أربعة آلاف درهم، فلما رآه كتبغا قال للدلال: كم جاب هذا الجوشن؟ قال: يا خوند أربعة آلاف درهم على بيبرس الجاشنكير. قال:
وهذا يصلح لذاك الخرياطى؟ فأخذه ووزن ثمنه، ومرت الأيام إلى أن اتفق لكتبغا ما اتفق ونفى إلى الشام ووقعت الحوطة على جميع حواصله، ووجد ذلك الجوشن فى حاصله، فأخذه لاجين، ثم انتقل بالعطاء من يد إلى يد حتى وقع فى يد بيبرس فعرفه وأخذه، وجعله فى حاصله إلى أن اتفق حضور كتبغا بعد
(١) جوشن - جواشن: لفظ فارسى، وهو درع يتكون من حلقات يتداخل فيها صفائح رقيقة من التنك - صبح الأعشى ج ٣ ص ٤٧٣.