وقال بيبرس فى تاريخه: ولما عاد التتار الذين انهزموا من القريتين اجتمعوا مع بقية عساكرهم وتحدثوا فى مشاورهم وقالوا: إن السلطان لم يتحرك من الديار المصرية فى هذه الأيام، وما ثم إلاّ بعض العسكر المصرى وعسكر الشام، واتفقوا على المبادرة ليغتنموا الفرصة - على زعمهم - وأقبلوا مسرعين بطمّهم ورمهم، فكثرت الأراجيف لمفاجأتهم والإنذار بمهاجمتهم، هذا والسلطان ومن معه لم يتحقق حالهم، ولا علم قبالهم، فتقسمت الأفكار والظنون، وتطلعت لقدومه العيون، واجتمعنا للاستخارة، واقتدحنا زناد الاستشارة، فأجمعنا على استطلاع الحال قبل العزم على الترحال.
قال: فتوجهت مستكشفا، وللأخبار متعرفا، فلما وصلنا القطيعة (١) صادفنا عسكر حلب وحمص وحماة قد تقدموا جائين، وأقبلوا متواترين، وأخبروا بأن العدو سائر سير المجدّ فى الرواح والغدو، وقد اقترب الإقدام من الأقوام، ودنت الخيام من الخيام، فرجعنا إلى مرج راهط، وخرج الأمير ركن الدين الأستادادار، والأمير جمال الدين أقوش الأفرم، ومعهما الأمراء المصريون والشاميون، فاقتضت الآراء التأخر عن المرج قليلا والنزول من دونه ولو ميلا، ريثما يحصل التوثق من وصول السلطان واجتماع العساكر قبل أن يلتقى الجمعان، فلما رجعوا إلى خلف شيئا [٢٨٠] يسيرا ولّت الأطلاب، وعادت العساكر على الأعقاب حتى إن أكثرهم ترك حماله، ورمى أثقاله، وأهمل قماشه وماله، ولم يتهيّأ ردّهم ولا أمكن صدّهم، وعبروا على مدينة دمشق بهذه الصورة، فتصدعت قلوب أهلها المكسورة، وعجوا وضجوا واستصرخوا ولجوّا، وحملهم ما دهموه
(١) أول ما وجد من هذا النص فى نسخة مخطوط زبدة الفكرة التى بين أيدينا - انظر ما سبق ص ٢١٧ هامش رقم ٣.