فلما سمع بيبرس هذا الكلام التفت إلى الأمراء فقال: والله أنا لا أخرج عن إشارة هذا، فإن الذى قاله وأشار إليه ما عليه فيه جناح عند الله، ثم قال نائب الشام للحسام الأستاذ الدار: يا أمير أنت إذا خرجت الساعة يغير العدو على دمشق من بعدك، ويضع السيف فى أهلها، فماذا يكون عذرك عند الله؟ فقال له الحسام: يا أمير إن العدو إذا علم بخروج العسكر من دمشق لا يلتفت إليها، ولا يكون عزمه إلاّ على اللحوق بالعسكر ويقول: إن دمشق فى يدنا، ومع هذا يتوهم عن خروج العسكر.
فلما سمع الأمراء هذا الكلام منه أمروا ساعتئذ بقلع الخيام والركوب، ونادى المنادى بالرحيل، فوقع الصوت فى دمشق، فتحير أهلها ودهشوا بحيث لا يغفل الوالد على ولده، ولا الولد على والده، وسيّبت النساء والبنات، وغلت أسعار الجمال والحمير، فبلع كل حمار كان يساوى مائة بخمسمائة وستمائة، وكل جمل كان يساوى ثلاثمائة بيع بألف وأكثر، وفى الناس من نجا بنفسه وخلّى حريمه، ومن كان ظهره ثقيلا طلع القلعة، وما جاء الليل إلا ودمشق يبكى عليها ويندبها النوادب.
وأما الجند والعسكر فإن أحدا منهم لا يلتفت إلى رفيقه ولا إلى خشداشه، ولا ينظر المملوك إلى أستاذه، وخرجت الغلمان والحمالة على وجوهها، والصناديق التى فيها الأكل والحلواء يرمونها لأجل الخفة، وكان يوما عظيما، وأما فقراء دمشق ومشايخها وصلحاؤها وفقهاؤها وقضاتها، فقد اجتمعوا بالجامع الأموى، ووطنوا أنفسهم على الموت، وكشفوا رؤوسهم يتضرعون إلى الله تعالى ويبكون، ولم يزالوا كذلك إلى أن طلع الفجر، ولاحت للناس مواكب العدو وجحافله،