أن نجيب عنه بأن نقول: القاعدة المقررة أن كل موضع يصح تقدير المصدر فيه وتقدير الجملة، وتقع فيه «إنّ» فإنه يجوز فيها الفتح والكسر، ولا شك أن المثال المذكور وهو مذ أن الله خلقه يجوز أن يكون التقدير فيه: مذ خلق الله إياه، وأن يكون: مذ هو مخلوق، وإذا كان الكسر إنما يجوز بهذا الاعتبار فكيف يلزم من القول بجوازه إبطال أن يكون الاسم المرفوع الواقع بعد «مذ أو منذ» مرفوعا بعامل مقدر، فإن المصنف يقول: إذا فتحت «أن» فتقدير العامل أعني الواقع لا شك فيه، وإذا كسرت كانت الجملة بتمامها واقعة بعد «مذ» واستحقت «إنّ» الكسر لذلك، فما وجه فتح «أن» على هذا التقدير؟.
ثم اعلم أن ابن عصفور ذكر أحكاما تتعلق بهاتين الكلمتين أعني «مذ ومنذ»، فمنها: أن الفعل الواقع قبلهما إن كان
منفيّا فلا تفصيل فيه، بل كل نفي جائز أن يقع قبلهما، وقد مرت أمثلة ذلك، وإن كان الفعل الواقع قبلهما موجبا فلا بد أن يكون ذلك الفعل متطاولا ممتدّا، وإلا لم يجز فتقول: مررت مذ يوم الجمعة، ولا تقول: قتلت عمرا منذ يوم الجمعة؛ لأن السير يمتد والقتل لا [٢/ ٤٤٤] يمتد، وكذا الحكم فيما هو للحال، لا يجوز قتلت زيدا منذ يومنا؛ لأن معناه: في يومنا، والقتل لا يمتد في اليوم أجمع، وإنما يكون في جزء منه، ولا شك أنهما يقدران مع زمن الحال بفي، قال: فتقول: ما رأيته في يومنا، فهو لم يره في جزء من اليوم، وإذا قلت: سرت مذ يومنا، فالسير في جملة اليوم بخلاف قولك: سرت في اليوم، فهي مع المنفي توافق سائر الظروف في أن الفعل لم يقع في جزء من اليوم، ومع الموجب تخالف، لأنك إذا قلت: سرت اليوم أمكن أن يكون السير في بعض اليوم بخلاف «مذ»؛ لأنه لا يكون السير الموجب إلا في جميع اليوم (١).
ومنها: أن الواقع بعدهما إذا كان معدودا فإن العرب تختلف فيه، فمنهم من لا يعتد بالناقص أصلا، وإنما يعتد بالكامل، فإذا قال: ما رأيته مذ ثلاثة أيام فلا بد أن تكون الثلاثة بجملتها لم يره فيها، ومنهم من يعتد بالناقص الأول، فإذا رأى شخصا ظهر يوم الجمعة ثم انقطعت الرؤية إلى ظهر يوم الاثنين قال: ما رأيته مذ ثلاثة أيام، ولا يعتد بالناقص الثاني. -