للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

الأكل في قولنا: أكلت من الرغيف، وإن «من» دلت على أن الأكل بالرغيف على جهة التبعيض - نظرا؛ لأن «أكل» فعل متعد بنفسه فهو مستغن عن حرف يعديه.

فإن قال: الحرف هنا ليس للتعدي إنما جيء به للمعنى الذي ذكرته وهو الدلالة على التبعيض. قيل: كان يستغنى عن ذلك بأن يقال: أكلت بعض الرغيف أو جزء الرغيف أو شيئا منه. فإن تم هذا الاعتراض أمكن أن يوجه ذلك بشيء آخر وهو أن يقال: إن مفعول «أكلت» يكون محذوفا، والتقدير: أكلت من الرغيف شيئا أو جزءا؛ فتكون «من» لابتداء الغاية مفيدة لبيان جنس ما أكل منه، ويكون التبعيض مستفادا من الكلام بمجموعه لا من «من» وحدها، ومما يحقق لك أن «من» ليست مرادفة لـ «بعض» أن الشواهد التي استدل بها على ذلك فيها ما ينافي ما ذكروه.

فقد استدل المصنف بقوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ (١)، وبقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ (٢)، ولا يسوغ تفسير «من» بـ «بعض» في هاتين الآيتين الشريفتين؛ إذ لا يقال: بعضهم من كلم الله، ولا:

بعضهم من يمشي على بطنه، والحقّ أن التبعيض إنما يفهم من معنى الكلام. ففي قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وفي قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وكذا في قوله تعالى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ (٣) أفهمه ما أعطاه الكلام من التقسيم. ولا شك أن كل قسم من شيء هو بعض لذلك الشيء، وفي قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ (٤) إنما يفهم التبعيض منه من جهة أن الفعل العامل متعد بنفسه فلا يحتاج إلى حرف يعديه وإذا كان كذلك فالعامل الذي هو حَتَّى تُنْفِقُوا منصبّ على شيء محذوف مقدر بعد «من» ومجرورها كما تقدمت الإشارة إلى تقرير ذلك. وقد مثل بعض (٥) العلماء الشارحين لكتاب المفصل التبعيض بقوله: أخذت درهما من المال؛ قال: فدلت «من» على أن الذي أخذت بعض المال (٦)، ولم يظهر لي ما قاله؛ فإن بعض المال إنما عرف -


(١) سورة البقرة: ٢٥٣.
(٢) سورة النور: ٤٥.
(٣) سورة البقرة: ٢٥٣.
(٤) سورة آل عمران: ٩٢.
(٥)،
(٦) هو ابن يعيش في شرح المفصل (٨/ ١٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>