وقد رأيت ما أفهمه كلامه من الغض من هذين الرجلين الكبيرين اللّذين أجلّ الله تعالى قدرهما وأظهره ورفع ذكرهما ونشره بشهرة ما لهما من التصانيف والتوجه إليها والإكباب عليها.
ولا شك أن فضل الرجلين غير منكور ومحلهما في العلم الشريف ليس بمحجوب عن ذوي البصائر ولا مستور في تعب من يحسد الشمس نورها، ويجهد أن يأتي لها بضريب. وغالب ما يخالف فيه المصنف سيبويه إنما تخالف مع العلم بكلام سيبويه والاطلاع عليه؛ ولهذا يصرح تارة في المتن وتارة في الشرح فيقول خلافا لسيبويه.
ولعل ما ذكره الشيخ قد يكون في بعض المسائل، لا في الكثير كما أفهمه كلام الشيخ بقوله: فكم، وكم، وكم. ثم ما يذكره المصنف مما يخالف رأي سيبويه إن كان صحيحا فبها، وإن لم يكن صحيحا وقد جهل فيه كلام سيبويه؛ فليس ذلك بنقص؛ إذ كل مأخوذ من كلامه ومتروك إلا المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. والرجل العالم لا يلزم في حقه أن يطلع على جميع المسائل. ومن شأن العالم أن يصيب ويخطئ، ومن حكمة الله تعالى وتفضله على عباده أن ينعم على الإنسان بأن يفهمه من العلم ما يفهمه، ثم يحجب عنه ما يجعله نصيبا لمن يأتي بعده؛ ليكون لكل أحد نصيب وحظ من التبصر، والإدراك، والفهم فيحصل الخير كلّه للناس كلّهم.
وأما كون المصنف لم يقرأ كتاب سيبويه على أحد فهذا غاية المدح له والتعظيم بجانبه حيث خاض في المشكلات وأدرك الحقائق بنفسه ابتداء دون مسلك ولا موقف، وقد كان الشيخ يلمزه أيضا بأنه لا يعرف له شيخ أخذ عنه هذا الفن - أعني فن العربية - وهو عجب؛ فإن [٤/ ٤٧] ذلك يدل على علو رتبته، وسمو همته، وعلى قوة أتاها الله تعالى له، وأعانه كما قال هو في خطبة كتابه: وإذا كانت العلوم منحا إلهية ومواهب اختصاصية؛ فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما عسر على كثير من المتقدمين. -