٣) تواضعه وعدم الاغترار بنفسه: والتواضع هو خلق العلماء العاملين الصّادقين حيثُ لا يرونَ لأنفسهم فضلاً، بل يرون كلّ ما هم فيه من النّعم منّة وفضلا من الله تعالى، مع قيامهم بواجب التدريس والتصنيف، يقول باعمرو واصفاً شيخه ابن حجر:((واعترف بكماله وتقدمه المحققون الأعلام، مع ما يشاهدونه من أخلاقه الحسنة وتواضعه الكلي، خاصة لآل النبي)). ويقول ابن حجر في مقدّمة حاشيته على كتابه ((فتح الجواد)) حول هذا الكتاب ما نصّه: ((وهو-أي ((فتح الجواد)) -يزدادُ الإصلاح فيه كلما قُرِئ عليّ، ويكثر من أهل النسخ الشكاية من ذلك عليَّ، وأنا أعتذرُ لهم بأنَّ الذي علمناه من محققي مشايخنا-الخارجين عن قضية نفوسهم، والمعرضين عن مقتضى علومهم وناموسهم، وعن قالةِ قومٍ أشربت قلوبهم محبة الباطل وترهاته-كيف يرجع الكبيرُ للصغير حتى في إصلاح مؤلفاته، وما دَرَوْا أنَّ العلوم لكونها منحاً إلهية، ومواهب اختصاصية، قد يدخر الله فيها لمن لا يؤبه له ما لم يدخره للأكابر، إعلاماً بأنَّ واسع فضله لا يتقيد بأولٍ ولا بآخر، ولا بكابر ولا بصاغر)).
٤) تمهُّلُه في التأليف والفتوى وعنايتُه بهما: وهذا الأمر ضروري للفقيه، وبه يُعرف العارفُ بفنّ الفقه المحقق له من غيره، فإنه لتحقيقه وتحريره لا يغترّ بظاهر عبارة، ولا تفوته كذلك فائدة إشارة، فيبالغ في التفتيش عن جواب السؤال، وتتبُّع كلام أهل العلم فيه، حتى يتحرر ذلك لَدَيْه، فيُعوَّل السائل عليه، وكان هذا ديدنَ ابن حجر في مباحثاته وفتاويه وإليك ما قاله في كتابه ((الاتحاف ببيان أحكام إجازة الأوقاف)): ((ولم أكتب فيها الاّ بعدَ مزيد استخارة وتثبت وتفحص حتى لقد اطلعتُ من تصانيف أئمتنا المعتبرة على ما يزيدُ على السبعين مؤلفاً، منها ما طالعته كلّه ككتاب ((الأشباه والنظائر)). ومنها ما طالعتُ أكثره ككتب الفتاوى، ومنها ما طالعتُ مواضع عديدة منه)).
٥) صَبرْه وتحّملُه الأذى: لاقى ابن حجر أذىً كثيراً أيام طلبه ووقت إمامته ومشيخته كذلك، ومن أعظم ما كان يلقاه من الأذى ويصبر عليه سرقة حسّاده لكتبه، فقد اختصر كتاب ((الروض)) لابن المقري وشرحه شرحاً جليلا واسعاً، لكنَّ بعضَ حُسَّاده غلبته شقوته فسرقه منه قبل استنساخه وأتلفه، لكنه صَبَر وسُمِعَ وهو يقول عن سارقه:((حَلَّله الله وعفا عنه)). وقد سرق لابن حجر كتاب آخر ألّفه في مسائل الحيض والنفاس. وصبر على ذلك أيضاً.
٦) مواظبته على العلم تحصيلاً وتعليماً: يقول الشعراني: ((صحبته -رضي الله عنه- نحو أربعين سنةً فما رأيته قط أعرض عن الاشتغال بالعلم والعمل)). ويقول باعمرو:((كان له الدَّأبُ في التصنيف والإقراء والإفتاء ليلاً ونهاراً)).