أما والذي لا يعلم السر غيره ... ويحي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أختار القرى طاوى الحشا ... محافظة من أن يقال لئيم
وإني لأستحيي يميني وبينها ... وبين فمي داجي الظلام بهيم
أقسم بالله تعالى المطلع على الضمائر، العالم بخفيات الأمور، والمحيي للأموات بعد أن رمت عظامها وبليت يوم النشور، بأنه يختار إطعام الضيف وإيثاره بالزاد وهو محتاج إليه قد اضطمر حشاه من الجوع، لئلا ينسب إلى اللؤم، وليحافظ على الشرف القديم. ويروى: لقد كنت أختار الخوى. والخوى: خلاء الجوف من الطعام، وخلاء الدار من السكان. فأما من روى: أختار القرى فمعناه ظاهر، يريد أختار إقامة القرى، فحذف المضاف. وبعضهم رواه: لقد كنت أختار القوى وزعم أنه مقصور من القواء؛ وليس بشيء.
وقوله: وإني لأستحيي يميني وبينها وبين فمي داجي الظلام، فقد زاد فيه على ما تقدم في المقطوعة قبله، لأنه ذكر أنه يستحي من نفسه ويده وهو لا ثاني له، في الليلة الظلماء، وإنما يريد تعوده ما يستحسن في الأكل، ويختار في الإطعام، فإذا تفرد جرى على عادته إذا تجمع. وانتصب محافظة على أنه مفعول له. وطاوى الحشا، انتصب على الحال، ويجوز أن يريد إن لم يرني الضيف فيما آتيه عند الأكل للظلام الشامل، ولم يبن له ما أترك، فإنس أستحي م يدي فلا أحجن ولا أستأثر. والأول أحسن. والبهيم: الظلم، وأصله الذي لاشية فيه ولا وضح، أي لون كان، وأراد به هنا تأكيد السواد، لأن قوله داجي الظلام أفاد الإظلام.