يقول: تذكرت بهؤلاء الأولاد أباهم الذي لو أتيته محزوناً مسلوباً، ومتعباً بأعباء الفقر مبهوراً، لضمني إلى صدره، وشملني تضاعيف بره، وجعلني إسوة نفسه في كل ما أركبه، والمسعف بطلبته عند جميع ما أخطبه، لأن الأخ الكامل الأخوة هو الذي يشد أزرك، ويحمي ظهرك، وإن دعوته لنائبة تنوب أجابك سريعاً، وإن أعملت سيفك أعمل سيفه معه حثيثاً.
[وقال المقنع الكندي]
يعاتبني في الدين قومي وإنما ... ديوني في أشياء تكسبهم حمداً
أسد به ما قد أخلوا وضيعوا ... ثغور حقوق ما أطاقوا لها سداً
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها ... مكللة لحماً مدفقة ثردا
وفي فرس نهد عتيق جعلته ... حجاباً لبيتي ثم أخدمته عبداً
كأن قومه ينعون عليه سرفه في الإنفاق، وتخرقه في الإفضال، وتجاوزه ما تساعده به حاله وتتسع له ذات يده إلى الاستقراض، وبذل الوجه في الأديان، فقال: كثرت لأئتمتهم فيما يركبني من الديون، وإنما هي مصروفة في وجوه مؤنها علي، وجمالها لهم، وقضاؤها في أنفسهم يلزمني، ومحامدها موفرة عليهم. ثم أخذ يعد فقال: من تلك الوجوه أن ما ينوب من الحقوق فيخلون بها ويضيعونها عجزاً عن الوفاء بواجبها، أنا أسد ثغورها، وأقيم فروصها.
ومنها: أن لي دار ضيافة قدورها مشبعة موفورة، وجفانها معددة منصوبة، لا يمنع منها طالبها ولا يحجب عنها رائدها، فلحمانها كلأكاليل على رءوسها، وثرئدها قد نمق تدقيقها.
ومنها: أن بفنائي فرساً مربوطاً قد أعد للمهمات، على عادة لأمثالي من الأكابر والرؤساء. ولكرمه وما يتوفر عليه من إكرامي إياه قد صار كالحجاب لباب بيتي، وقد شغلت بخدمته عبداً يتفقده بمرأى مني، لا أهمله ولا أغفل عنه.