للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الممسي يتصل بأول حد الليل، وكذلك المصبح يبتدئ من أول حد النهار. وقيل إن الممسي يستحقه الوقت إلى أن ينقضي شطر من الليل، وكذلك المصبح يستحق إلى أن ينقضي شطر من النهار. والغرض في التفدية التي تبرع بها هو إظهار اليأس والتفجع في إثر أوقاتهم وأفعالهم فيها.

وقوله أولئك لو جزعت لهم لكانوا إقرار بأنه لم يوف الجزع فيهم حقه، ولو وفي لكان ذلك يوجب عليه الزهد في العشيرة والأهل والمال، وسائر ما يطيب العيش به وله. فالشرط الذي ذكره ليس هو شرطاً فيما يوجبه التوجع في كونهم عزيزاً، لأنهم أعزاء عليه في كل حال، وإنما هو شرط فيما يوجبه التوجع للمتوفي لو تكلف على وجهه وكنهه، لكأنه قال: لو أعطيت الجزع حكمه لكان حالي حينئذ بخلاف حالي الساعة، ولكان لي عذر في ذلك، لأنهم أعز علي من أهلي ومالي، لكني تركت ذلك اقتداء بالناس في جزعهم لمصابهم. فذكر السبب في أن ما يظهر منه ليس يعده شيئاً مغنيا مع ما يستحقونه. وهم يكتفون بذكر السبب عن المسبب وبذكر المسبب عن السبب كثيرا.

[وقال قراد بن غوية]

ألا ليت شعري ما يقولن مخارق ... إذا جاوب الهام المصيح هامتي

ودليت في زوراء يسفى ترابها ... علي طويلاً في ثراها إقامتي

تقدم القول في ليت شعري وأن خبر ليت يحذف أبداً كما يحذف خبر المبتدأ بعد لولا، وأن شعري بمعنى علمي، ويصير ما بعده ساداً مسد مفعوليه كما يسد جواب لولا مسد خبر المبتدأ بعده. وإنما تمنى أن يعلم موقع مصابه من مخارق على حسن تربيته له، وحميد تعطفه عليه، وميله مدة عيشه إليه. وكيف يجزع له ويقلق لفراقه إذا حدث به قضاء الله ودخل في جملة الأموات، وجاوب صداه أصداءهم. وهذا على عادتهم فيما كانوا يقولونه من أن عظام الموتى تصير أصداء وهاماً؛ حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا عدوى ولا هامة ولاصفر ". ويقال صاح يصيح، فإذا أريد

<<  <   >  >>