للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

رشده، فلما لم يتلق بالقبول قوله جعله قضيةً منه على المخاطب، بسوء الاختيار، وركوب الاغترار، وأظهر أنه قد صار من التضجر به ورفع الطمع عنه وعن صلاحه، في حكم اليائس من فلاحه، والممسك عن وعظه وإبلاغه، لكونه في حكم المسخر لهم حتى لا رأى له ولا اعتبار، ولا تدبر ولا اختيار. فقال: أراط قد صرت معهم بمنزلة البعير الذي يستقى عليه، طاعة وانقياداً، فيقال له أدبر وأقبل بالغرب. والمعنى تسام ما تسام فتلتزمه وتنقاد، فعل ذلك البعير. ومعنى " يقال له " أي يحمل على ذلك. والتصرف في القول على وجوهٍ كثيرة من المجاز.

فخذها فليست للعزيز بخطةٍ ... وفيها مقالٌ لامرئٍ متذلل

هذا الكلام خروجٌ عن عهدة ما يفعله المخاطب، وبراءةٌ إليه مع الإنكار عليه والتنبيه على موضع الخطأ فيه، فيقول: وكلتك إلى نفسك، ونفضت يدي من مراجعتك، فأرض بما عليه تدار، وابذل ما تراود عنه وتسام، عالما أن مثله لا يرضى به عزيزٌ، ولا يلتزمه آنفٌ؛ وفيه مع ذلك نظرٌ وجدالٌ لمن يتذلل: هل هو خطته أيضاً. والمعنى: إنك تركب ظهراً لا يقتعده المتكلف للذل فكيف العزيز. ويجوز أن يكون المعنى: فيها للناس، إذا تذاكروا الأحوال والخطط، نظرٌ وكلامٌ مبسوطٌ: هل يرضى بمثله المتذلل أو لا. ويجوز أن يريد: إن الذليل يتكلم فيمن يرضاها خطةً ويعيره إياها، فكيف يكون خطة للعزيز. وهذا الوجه أبلغ الوجوه الثلاثة وأدقها.

[وقال العباس بن مرداس]

أتشحذ أرماحاً بأيدي عدونا ... وتترك أرماحاً بهن نكايد

هذا مثل. والمعنى: أتعين أعداءنا علينا، لأن من أحد سلاح العدو الذي يقاتل به، وترك سلاح صاحبه الذي يكايده فقد أعانه عليه. وإنما خص من بين العدد الرماح لأنها كأنها أخص بهم. وقوله " وتترك أرماحاً " أراد وتترك شحذ أرماحٍ، فحذف المضاف. ويجوز أن يكون في كنى بالأرماح عن الرجال. والمعنى: أتهيج أصحاب عدوي علي، وتسددهم نحوي، وتترك أصحابي الذين بهم أكابد، فلا تقوى في القتال والصبر رأيهم ولا تمر في الثبات عزائمهم، ومن المعروف قولهم: فلانٌ سيفي

<<  <   >  >>