بين المنادى وبين الدعاء له. والجمل المعترضة بين أنواع الكلم تفيد فيها التأكيد وتحقيق معانيها. وقولها (زين المجالس والندى) ، إنما ذكرتهما وهما واحد لأنها أرادت بالمجالس مجالسة خاصة إذا قصد لإنزال الحاجات به، واستخراج المطالب منه، وأرادت بالندى نادي الحي. وانتصب قبيصة على أنه عطف البيان ليا زين. ويجوز أن يكون على تكرير النداء وقد رخمه، فكأنه قال: يا زين المجالس يا قبيصة.
يطوى إذا ما الشح أبهم قفله ... بطناً من الزاد الخبيث خميصاً
يصفه بقلة الشره، وأنه لا يرغب من أعراض الدنيا إلا فيما يزين ولا يشين، ويستطاب ولا يستخبث. وقوله (إذا ما الشح أبهم قفله) ، يريد إذا اشتد الزمان فصار كل مالك لشيء يبخل به حتى لا يمكن انتزاعه منه. وإذا رويت (أبهم قفله) على ما لم يسم فاعله، فالمعنى أحكم أمره وجعل كالفرض الذي لا يحتمل التجوز، وإذا رويت (أبهم قفله) جعل الفعل للشح، كأن له قفلاً يبهمه. وإبهامه: أن يجعله على وجه لا يدري كيف يفتح. فيقول: هذا الرجل يطوي بطناً له صغيراً مضطمراً من الزاد السيء، إذا تملك البخل الناس لشدة الزمان، فجعلهم كذلك.
[وقال عكرشة الضبي يرثي بنيه]
سقى الله أجداثاً ورائي تركتها ... بحاضر قنسرين من سبل القطر
مضوا لا يريدون الرواح وغالهم ... من الدهر أسباب جرين على قدر
الأجداث: القبور، وكذلك الأجداف بالفاء. ويعني بالأجداث قبور بنيه. ودعا لها بالسقيا وجعل موضعها بحاضر قنسرين، إجلالاً لها وتنبهاً عليها. وقوله (من سبل القطر) مفعول ثان لسقى الله. والمعنى سقى الله هذه القبور التي وصفتها من ماء السحاب ما سال على عجلة وبشدة. وخص ذلك لأنها أعذب المياه عندهم. والقصد في طلب السقيا لها أن تبقى عهودها غضة محمية من الدروس، طرية لا يتسلط عليها ما يزيل حدتها ونضارتها. ألا ترى أنه لما أراد ضد ذلك قال: