للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تلقى بكل بلادٍ إن حللت بها ... أهلاً بأهلٍ وجيراناً بجيران

هذا تسليةٌ للنفس عن الأهل. يقول: تجد بكل بلد تنزل به أهلاً بدلاً من أهلك، وجيراناً بدلاً من جيرانك. والعرب تقول: هذا بذاك، أي هو عوضٌ منه. وإنما ضمن أبو تمام هذه الأبيات باب الحماسة، لما قدمته من أنها صادرةٌ عن قسوةٍ شديدةٍ، وقلة فكرٍ في التحول عن الإلف والعادة، ولأن ترك الوطن والإحلال بالعشيرة يضم إلى القتل وتلف النفس، فالصبر عليه كالصبر على القتل. ألا ترى قوله تعالى: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم ".

وقال بعض بني أسدٍ

إلا أكن ممن علمت فإنني ... إلى نسبٍ ممن جهلت كريم

يقول: إن لم أكن ممن عرفتهم بالشرف، فإني أنتمي إلى شرفٍ كريم ممن جهلتهم. كأنه يريد: ليس الاعتبار بما تعدينه شرفاً أو تعرفينه نسباً، لكن الاعتبار بحصول الكرم على أي وجهٍ حصل، وحوز المجد وإن جهله من جهل. وقوله " إلى نسبٍ " يتعلق بفعل مضمرٍ، كأنه قال: فإنني أنتمي إلى نسبٍ.

وإلا أكن كل الجواد فإنني ... على الزاد في الظلماء غير شتيم

يقول: إن لم أكن النهاية في الجود فإني لا أشتم بسبب الزاد في الليلة المظلمة، فلا أذم لصرفي الصيف عن نفسي بالعلل الكاذبة في الشتوة القحطة. وقد اشتمل قوله " على الزاد في الظلماء " على ما بينا وأكثر منه. وهذا الذي خبر به عن نفسه هو الجود، لكنه أراد أن يرى من نفسه ترك ادعاء النهايات، والأخذ بالاقتصاد في الحالات، وإن كان تناهى من حيث اقتصد. ويقال زيدٌ الشجاع كل الشجاع، والمعنى أنه الكامل في معناه. ومن هذا الباب قوله عز وجل: " وإنا أو وإياكم لعلى هدى أو في ضلالٍ ". وهذا كلام من نظر لنفسه وغيره، وتبين ما عليه وله، فأثبت ما أثبت في أحسن معرضٍ، ودفع ما دفع بألطف تعريضٍ. وتعلق على من قوله: " على الزاد " بشتيم وإن كان مضافاً إليه، لأنه أجري غير مجرى لا،

<<  <   >  >>