ليس العطاء من الفضول سماحة ... حتى تجود وما لديك قليل
يعظ نفسه ويذكره ما انتهى إليه حاله في عيشه وتصرفه، فيقول: قد مسك الكبر، فأي طريق تسلك، وأي مذهب تذهب، وقد رجعت عن جهالتك، وارتدعت عن كثير مما كنت تلابسه بغباوتك، وقرب منك التحول من دار الفناء إلى دار البقاء، وقد كان أيام الشباب طيبة الممر، خفيفة المستقر، وأيام الشيب البادي كريهة الظهور، ثقيلة الأعباء والحمول؛ فعليك بما يجمع لك إلى الحمد ذخراً، وإلى ثناء الناس وشكرهم أجراً. واعلم أن البذل مما يفضل عنك ليس بسماحة، إنما الجود أن تعطى من قليلك، وتنفق من كفايتك. وقوله وما لديك قليل، يجوز أن يريد والذي لديك، ويكون ما مبتدأ ولديك صلته وقيليل خبره؛ ويجوز أن يكون ما نافية وقليل اسمه، ولدييك خبره. والمعنى حتى تجود بكل شيء لك فلا يبقى قليله أيضاً.
[وقال جوية بن النصر]
قالت طريفة ما تبقى دراهمنا ... وما بنا سرف فيها ولا خرق
إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ... ظلت إلى طرق المعروف تستبق
يقول: اشتكت هذه المرأة الحال في سرعة نفاذ ما يحصل عندهم من الورق والمال، وهم لا يسرفون في الإنفاق، ولا يخرقون في الإتلاف، فقالت: لا بركة مع سوء التدبير، ولزوم التضييع والتفريق. وتنسب قلة تلومه وخفة بقائه إلى ضعف النظر وعجز التدبير، وإرهاق التعجل ونقص التقصير. فقلت لها: إن دراهمنا إذا اجتمعت تسابقت إلى منافذ المعروف، وتلاحقت في مصارف الإجسان المألوف، فذلك سبب سرعة فنائها، وعجلة ذهابها لا غير. فقوله إذا اجتمعت ظرف لقوله ظلت إلى طرق المعروف تستبق. ويوماً ظرف لاجتمعت.