وقوله سأبكيك لا مسبقياً فيض عبرةٍ يريد أن بكاءه يتصل إلى أن يستنفد مواد دمعه، وأنه لا يطلب بتكلف الصبر ما يتعقبه من التسلي. فقوله بالصبر أراد بتكلف الصبر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وذاك أن الإنسان إذا تصبر فيما يدهمه مدةً، وتماسك به برهةً، أداه مرور الأوقات إلى أن يتسلى؛ فعاقبة الصبر هو التسلي، فإذا تسلى عاد طمعه فيما يرجى، وحذره مما يخشى، إلى ما كان أو أشد، وذلك حال من لا هم له.
[وقال خلف بن خليفة]
أعاتب نفسي إن تبسمت خالياً ... وقد يضحك الموتور وهو حزين
انتصب خالياً على الحال من أعاتب. وأن تبسمت بفتح الهمزة معناه لأن تبسمت، ومن أجل تبسمى. ولك أن تكسر الهمزة من إن فيكون شرطاً ويكون جوابه ما دل عليه أعاتب نفسي. والمعنى: إذا خلوت بنفسي أبسط العتب عليها لما يتفق منها في الملأ من متابعة الناس على تصرفهم في المؤانسة والمضاحكة، وطلب موافقتهم عند المفاكهة والمحادثة. هذا وليس ذاك لداعية سرور، ولا لباعثة ابتهاجٍ وحبورٍ. ثم قال وقد يضحك الموتور وهو حزين يريد أن الموتور وإن تناهى حزنه، واشتد قلقه وبثه، فقد يضحك قطعاً لشماتة شامتٍ، وتجلداً مع عدوٍ مكافح، أو جرياً على عادةٍ، أو استمراراً عفي إقامة موافقةٍ، ولا يعد ذلك منه إخلالاً بواجب الهلع، ولا إغفالاُ للوازم الجزع، والضحك أبلغ من التبسم، فكذلك أنا وإن تبسمت لضربٍ من تلك الضروب، فطلب الوتر والقيام بسنة الحزن نصب عيني، وأهم الأمور إلي.
وبالدير أشجاني وكم من شجٍ له ... دوين المصلى بالبقيع شجون
ربيً حولها أمثالها إن أتيتها ... قرينك أشجاناً وهن سكون
كذا الهجر أنا لم يضح لك أمرنا ... ولم يأتنا عما لديك يقين
الأشجان: جمع الشجن، وهو الحزن، وفي أدنى العدد، والشجون جمعه الكثير. وقوله ربي حولها أمثالها موضعه رفع على أنه بدل من قوله شجون. ويعنى بها القبور المسنمة. وحولها أمثالها صفة للربى. وما أشار إليه من المماثلة يعني في