ناسيتهم بغضاءهم وتركتهم ... وهم إذا ذكر الصديق أعاد
يقول: رب قومٍ هكذا أنا نسيت بغضهم لي حتى نسوا أيضاً - لأن المناساة تكون من اثنين فصاعداً - وتركتهم وهم من جملة الأعداء، إذا ميزت بالذكر الأصدقاء. وقوله " الصديق " أراد به الجنس.
كيما أعدهم لأبعد منهم ... ولقد يجاء إلى ذوي الأحقاد
يقول: لم أكاشفهم، ولا أظهرت لهم علمي بعداوتهم، بل استمررت في مداجاتهم ومساترتهم، وعركت بجنبي ما بدر من هفواتهم، طلباً لأن أعدهم لمن هو أبعد شأواً في العداوة، أو أشد تأخراً في الالتحام والقرابة. ثم قال: ولقد يضطر الإنسان إلى نصرة بني الأعمام وإن كانوا منطوين على ضغائن، فإذا قاتل ببعضهم بعضاً لاءمه ذلك ووافقه، وحصلت الدبرة على من حصل، إذ كان فيه تفانيهم، واشتفاء الصدور منهم. وهذا كما قيل لبعض حكماء العرب ما تقول في ابن العم؟ قال: عدوك وعدو عدوك.
[وقال يزيد بن الحكم]
دفعناكم بالقول حتى بطرتم ... وبالراح حتى كان دفع الأصابع
يقول: درجناكم في استبقائكم ورتبنا القول والفعل في استفاءتكم وإصلاحكم، فوعظناكم أولاً باللسان وضرب الأمثال في الجدال، حتى أبطركم ذلك وزادكم إغراءً، فارتقينا من القول إلى الدفع بالراح، وتقبيح ما تأتونه بأحسن المس، فلما لم يغن شيءٌ من ذلك عدلنا منه إلى الدفع بالأصابع، وما بين هذه المنازل من التفاوت في الخشونة والليان معلومٌ عند ذوي الألباب. ومر بي فيما قرأته من مجاوبات قريش، أن بعضهم قال لآخر منهم مستضعفاً لما أورده عليه: هذا دفع بالراح! فقال مجيباً: كلا إن معها الأصابع! وقوله " حتى كان دفع الأصابع " انتصب دفع على أنه خبر كان، واسمه مضمر كأنه قال: حتى كان الدفع دفع الأصابع. ولك أن ترفعه على أن يكون اسمه، وتضمر الخبر، كأنه قال: حتى كان دفع الأصابع دفعنا، أو على أن يكون كان بمعنى حدث، فتكتفي بالفاعل، وهي التي تسمى كان التامة.