مضى ابن سعيدٍ حين لم يبق مشرقٌ ... ولا مغربٌ إلا له فيه مادح
يقول: فجع الناس بابن سعيدٍ حين كمل وبرع وشمل نفعه فعم حتى لم يبق بقعةٌ من جوانب الشرق والغرب إلا وترى فيها شاكراً لنعمه، حامداً لفعاله، مادحاً لفرط إحسانه. وإنما يعظم الرزء باستكمال فضائل المرثي، وشمول فواضله.
وما كنت أدري ما فواضل كفه ... على الناس حتى غيبته الصفائح
قوله ما فواضل كفه استفهامٌ، وموضع الجملة من الإعراب أنه مفعول أدري وقد علق عنه، والمعنى: ما أدري ما يقتضى هذا السؤال. والفواضل: جمع فاضلة، وهو اسمٌ لما يفضل من ندى كفه فيتجاوزها إلى الناس. ويجوز أن يكون فاضلةٌ مصدراً بمعنى فضلٍ أو إفضالٍ، فيكون كالعافية والقائم من قولهم قم قائماً، والبالية من قولهم ما أباليه باليةً، ثم لاختلافه جمعه. والمصادر تجمع إذا اختلفت؛ على ذلك قولهم العلوم والعقول وما أشبههما. وإذا جعل كذلك يكون قد عدى فواضل وهو جمعٌ مكسرٌ إلى قوله على الناس. وحصل من هذا الكلام أن قوله على الناس يتعلق بفواضل على وجهين: أحدهما أن يكون فواضل جمع فاضلة، وهو اسم للفاعل، والثاني أن يكون فواضل جمع فاضلة، وهو مصدرٌ، وتعدى مثله ليس بكثير.
وقوله حتى غيبته الصفائح معناه إلى أن غيبته الصفائح. والصفائح: أحجار عراضٌ سقف بها قبره. يقول: لم أتبين مقادير إحسانه عند الناس، ومبالغ أياديه لديهم، وفنون بره بهم، وانصباب مننه إليهم، لاختلاف مواقعها، ولخفاء كثيرٍ منها على حسب قصوده في الإفضال، ولتباين مواضع الصنيعة في التفصيل والإجمال، إلى أن خلى مكانه فظهرت الفاقة على متحملي نعمه، وتظاهر الحمد والثناء من الكافة على اختلاف منازلهم وتباعد مظانهم، فحينئذ بان لي كثرتها وتوفرها.
فأصبح في لحدٍ من الأرض ميتاً ... وكانت به حياً تضيق الصحاصح