وقوله (ألا ليت أمي لم تلدني) تمنى السلامة بأن كان لا يخلق ولا يخترع فينجو من الابتلاء، وملابسة أنواع البلاء، والتردد بين السعادة والشقاء؛ وتمنى بعد أن أوجد وخلق ألا يكون فاقدة والمعزى فيه، بل كان السابق له والمقدم عليه، سيما وهما جاريان إلى غابة من العطب لا محيص عنها، ولا مفر منها.
وكنت به أكنى فأصبحت كلما ... كنيت به فاضت دموعي على نحري
وقد كنت ذا ناب وظفر على العدى ... فأصبحت لا يخشون نابي ولا ظفري
جرى على افتتنانهم في تحويل الكلام عن الاخبار إلى الخطاب، وصرفه عن العموم إلى تخصيص بعضهم بالذكر. ألا ترى أنه أخبر في قوله (وقاسمني دهري بني) ثم قال (ليتني سبقتك) فرجع إلى خطاب واحد منهم، ثم قال (وكنت به أكني) فأخبر به عن أحد بنيه. والمعنى: كنت اكتنيت به حباً لذكره واسمه، وتفاؤلاً ببقائه وداومه، فبقي الاسم والشخص مفقود، فلا جرم أني متى كنيت به تجدد لي حزن أفاض عبرتي، وأغاض ماء عيشتي.
وقوله (وقد كنت ذا ناب وظفر على العدى) يريد: إني كنت تام السلاح بهم، موفور العدد والعدد بمكانهم، مخشي الجانب، لا يطمع في استنزالي عن حجة أركبها، أو شبهة اتعلق بها. وذكر الناب والظفر مثل ضربه لسلاحه وآلاته التي كان يدفع الخصوم بها، ويقهر الأعداء باستعمالها. وقوله (لا يخشون نابي ولا ظفري) يريد لا ناب لي بعدهم ولا ضفر فيخشى. فهو مثل:
ولا ترى الضب بها ينجحر
[وأنشد لامرأة ترثي أباها]
إذا ما دعا الداعي عليا وجدتني ... أراع كما راع العجول مهيب
وكم من سمى ليس مثل سميه ... وإن كان يدعي بأسمه فيجيب
يقول: متى قرع أذني دعاء داع بإسم ولدي أذعن وأقلق، كما يذعر الثكلى مهيب، وهو الداعي. والثكلى تفزع لأدنى صبحة ترهقها، أو قرعة تصدم قلبها.