للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقوله: (وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا) يجري مجرى الالتفات، كأنه أقبل على مخاطب فقال: إني لا أتجمل بترك مؤاخذتهم، وأطراح الحقد في مساوقتهم، فإن الرئيس يحب ذلك عليه في شروط الرياسة. وقوله: (لهم جل مالي) يريد إن تواصل الغنى لي أشركتهم في معظمه، من غير امتنان ولا تكدير، وإن تحيف مالي حادث يلم، أو عارض يحدث، لم أنتظر من جهتهم معونة، ولا كلفتهم فيما يخف أو يثقل مؤونة.

وقوله (وإني لعبد الضيف) أراد أن يبين ما عنده للغريب الطارق، والضيف النازل، بعد أن شرح حاله مع مواليه، وخصاله في مرافقة ذويه، فقال: وابلغ في خدمة الضيوف مبالغ العبيد فيها. ثم أكد ما حكاه بقوله (وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا) ، فانتصب (غير) على أنه مستثنى مقدم؛ وذاك لأنه لما حال بين الموصوف والصفة، وهما شيمة وتشبه، وتقدم على الوصف صار كأنه تقدم على الموصوف، لأن الصفة والموصوف بمزنلة شيء واحد. وقوله (تشبه العبدا) يريد: تشبه شيم العبد، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.

فليتأمل الناظر في هذا الباب وفي مثل هذه الأبيات، وتصرف قائلها فيها بلا اعتساف لا تكلف، وسلاسة ألفاظها، وصحة معانيها، فهو عفو الطبع، وصفو القرض.

[وقال رجل من الفزاريين]

إلا يكن عظمي طويلاُ فإنني ... له بالخصال الصالحات وصول

ولا خير في حسن الجسوم ونبلها ... إذا م تزن حسن الجسوم عقول

إذا كنت في القومالطوال أصبتهم ... بعارفة حتى يقال طويل

يقول: إن لم يكن في طولي امتداد، ولا في خلقي بسطة وكمال، فإني لا أزال أصل نقص جسمي، وأمد قصر قامتي بما أتولاه من الأفعال الكريمة، وأختاره من الخصال الحميدة، حتى أمحو سمة الإزراء عن نفسي. ومن أوتي الفضل في خلقه ونفسه، وعاداته وشيمه، خير ممن أوتي العظم في خلقه، والبراعة في جسمه، فلا فضيلة لمن حسن وجهه ونبل منظره، إذا لم يزينه عقل وافر، ومخبر رائق.

<<  <   >  >>