للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[وقال أسود بن زمعة]

أتبكي أن يضل لها بعيرٌ ... ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكرٍ ولكن ... على بدرٍ تقاصرت الجدود

ألا قد ساد بعدهم رجالٌ ... ولولا يوم بدرٍ لم يسودوا

كان السبب في قول الأسود هذا الشعر أن قريشاً كانت حرمت البكاء على أنفسهم لقتلى بدر، لئلا يشمت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهم، وكان الأسود قد فجع بابنه زمعة، إذ كان من قتلى ذلك اليوم، فافتدى بالناس في ترك البكاء عليه، فاتفق أن كانت له مشربةٌ فتنزه ومضى إليها فسمع بكاء امرأةٍ فقال لأصحابه: انظروا فإن كان البكاء قد حلل، حتى نبكي نحن أيضاً زمعة، فرجع إليه وقيل: إنه بكاء امرأةٍ ضل لها بعيرٌ. فقال هذا الشعر منكراً لبكائها ومستعظماً.

وقوله أتبكي أن يضل لفظه لفظ الاستفهام، والمعنى معنى الإنكار. وقوله أن يضل: أراد من أن يضل، وهم يحذفون حرف الجر من أن كثيراً. والسهود: امتناع النوم؛ ورجلٌ مسهدٌ، إذا كان قليل النوم. ولم يرض بأن أنكر البكاء عليها، وترك النوم لفقدان بعيرها، حتى نهاها فقال:

فلا تبكي على بكرٍ ولكن ... على بدرٍ تقاصرت الجدود

يريد أن الذي يجب البكاء له ما جرى على رؤساء قريشٍ وأرباب الجدود فيهم ببدرٍ، وأن الحيف العظيم والخسران المبين والغبن الشديد في ذاك، لا في ضلال بكرٍ. وبدرٌ: اسم بئرٍ اتفقت الوقعة عندها. وقوله تقاصرت الجدود من فصيح الكلام، وهو تفاعلٌ من القصور والعجز، لا القصر الذي هو ضد الطول، كأنه تبارت في القصور، يدل على ذلك أنه يقال قصرت كذا على كذا، إذا حبسته عليه ومنعته من الذهاب عنه حتى صار كالعاجز عن غيره. ويقال أيضاً قصرته على كذا، إذا رددته دون ما أراد. ومنه القصر في الصلاة. ويقال تقاصرت إلى فلانٍ نفسه ذلا. وقصر السهم عن الهدف فهو قاصر. ولا يمتنع - وإن كان الأول هو الوجه - أن يجعل من

<<  <   >  >>