للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد جعلت نفسي هي النأى تنطوي ... وعيني على فقد الصديق تنام

جعلت نفسي، بمعنى طفقت وأقبلت، ولذلك لا يتعدى. فيقول: أخذت نفسي تصبر على النأي، وتنطوي على الفراق، فلا يظهر منها جزعٌ، ولا تبوح بشكوٍ، وعيني تنام على فقد الصديق منهم فلا تسهر، ولا تبكي فتذرف وهكذا النفس إذا وطنت على الشدائد، وتمرنت بالمصائب. وقوله: " تنطوي " أصل الطي الثني والقبض، ومنه الطاوي والطيان.

وقال آخر:

روعت بالبين حتى ما أراعٍ له ... وبالمصائب في أهلي وجيراني

يقول: فزعت بالفراق مرةً بعد أخرى، وثانيةً بعد أولى، حتى صرت لا أرتاع له، وواظبت المصائب علي واتصلت في الأهل تارةً، والإخوان أخرى، حتى صارت الرزايا بالإلف كأنها مرازي وعطايا. والكلام في حتى واتصاله ومعناه على ما تقدم.

لم يترك الدهر لي علقاً أضن به ... إلا اصطفاه بنأيٍ أو بهجران

يقول: لم أدخر لنفسي علقاً نافست فيه إلا زاحمني الدهر عليه فاستأثر بهن إما بإيقاع بعدٍ بيننا، أو إحداث هجرانٍ توسطنا. وأصل العلق: المال الكريم، وجمعه أعلاقٌ وعلوقٌ. واستعاره ها هنا.

[وقال طفيل الغنوي]

وما أنا بالمستنكر البين إنني ... بذي لطف الجيران قدماً مفجع

يقال: نكر وأنكر واستنكر بمعنىً واحدٍ. فيقول: أنست بفراق الأحبة بعد نفرتي، وببعد ذوي اللطف عقب قلقي، وذلك لأني فجعت بالخلطاء والجيران قديماً، حتى صار كالعادة المألوفة. وقوله " بذي لطف الجيران " أراد بلطيف الجيران، أي باللطيف منهم. وقدماً ظرف للمفجع.

<<  <   >  >>