للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قوله فجعت بهم الجملة في موضع الصفة لقوله أقوامٌ. وخلى لنا هلكهم، في موضع خبر كان. والمعنى: قد فجعت فيما مضى من الزمان بأقوامٍ جزعت لهم بل هلعت، وأقمت الرسم في البكاء عليهم بل أسرفت، فبقى الفجع بهلاكهم لي ولمن تبعني واقتدى بي، السمع والبصر بعدهم، فزجينا الوقت مستمتعين بما سلم من حواسنا، وعائشين مع الناس في باقي عمرنا؛ فلما أصبنا بك لستنفدت قوانا، واستنزلتنا عن ذخائر صبرنا، فبطلت طرائق العلوم منا، وتناهت في العجز عنا حواملنا إلا شفاً، فطالت شقوتنا، وأمر عيشنا. والشفا: الباقي من الشيء القليل. ويقال: ما بقى من النهار إلا شفاً، أي مقدار ما بين الليل والنهار حين غربت الشمس.

وقوله لم يدع بالياء، هو أقيس الروايتين؛ لأن الصلة جاءت على حدها مع الموصول. وإذا رويته بالتاء فعلى الخطاب، وساغ لأن المخاطب والذي مرجعهما إلى شيءٍ واحد، وقد مضى مثله، فاعلمه. وقال المازني: لولا كثرة مجيئه لرددته. ومثله:

أنا الذي سمتن أمي حيدرة

وقال سمعاً وأبصاراً لأن السمع اسم الجنس، فهو كالجمع.

وقال نهشل بن حريٍ

بنفسي خليلاي اللذان تبرضا ... دموعي حتى أسرع الحزن في عقلي

تعلق الباء من بنفسي بفعلٍ مضمر دل عليه جلية الحال، وقرينة الكلام، كأنه قال: أفدى بنفسي من أخاله. ومعنى تبرضا أفنيا دموعي شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً؛ لأن التبرض التبلغ والتطلب من ها هنا وها هنا. وماء برضٌ، أي قليل. وبرض لي من ماله برضاً، إذا أعطاك القليل. قال:

لعمرك إنني وطلاب سلمى ... لكالمتبرض الثمد الظنونا

<<  <   >  >>