للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقوله (مضوا لا يريدون الرواح) يريد: ساروا لا يعرجون على شيء، فلا يريدون لبثاً ولا مقاماً، بل استعجلوا فتعجلوا، وأهلكهم من أحداث الدهر أسباب جاءت على قدر، فكأنهم كما دعوا أجابوا، وكما تهيئوا أخذوا، لا تلوم ولا اختلاف، ولا قصور ولا امتناع.

ولو يستطيعون الرواح تروحوا ... معي وغدوا في المصبحين على ظهر

يقول: ولو قدروا فيما هموا به من سيرهم على النزول رواحاً لتروحوا معي، ولغدوا في صباح اليوم الثاني على ظهر الأرض ولم يصيروا مع الأموات في بطنها مأخوذين عن حظوظهم، لكنهم استمروا في المفارقة فعل من لايملك إلا ذاك، ولا اختيار له فيما يركبه.

وهذا الكلام منه توجع وتحسر، حين أتوا من حيث لم يشعروا، وطولبوا بما لا رجعة فيه ولا استبقاء وإن استنظروا.

لعمري لقدوارت وضمت قبورهم ... أكفا شداد القبض بالأسل السمر

يذكر نيهم كل خير رأيته ... وشر فما أنفك منهم على ذكر

يقول: وبقائي، لقد اشتملت قبورهم على فرسان شجعان يملكون بالطعن أكفا شداد القبض على الرماح. وإنما قال (وارت وضمت) لأن الموارى هو الساتر، وساتر الشيء يكون ضامناً وغير ضامن. وإنما أراد أن يجعل القبور موارية وضامنة، فلذلك جمع بين اللفظين. ثم عقب هذا بأن قال: يذكرنهم الأمور التي أنتهى إليها على اختلافها، فإنها لا تخلو من أن تكون نافعة أو ضارة؛ فإن كانت نافعة كانت خيراً، وكانت عمله ديمة مع من يتسبب إليه بحرمة، أو يدل بآصرة. وإن كانت ضارة كانت شراً، وهو الذي يشقى به من يشاقه ويعانده، حتى لا يخليه منه أمن من ترقبه ساعة، فلا أزال ذاكراً له بما أعتبره من أمور الدنيا وأحوالها، وأنتهى إليه فأتأمله من مسبباته في طوائف الناس بعده. ويقال: ما انفك يفعل كذا، بمعنى مازال. والذكر، بضم الذال، يكون بالقلب؛ والذكر بكسر الذال، يكون باللسان.

<<  <   >  >>