للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كأنك لم تسبق من الدهر ليلةً ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

يقول: من أدرك ما طلبه من الثأر فكأنه لم يصب ولم يوتر. وهذا بعث وتحضيض على طلب الدم والزهد في الدية. وفي طريقته قول الآخر:

كأن الفتى لم يعر يوماً إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكاً إذا ما تمولا

لكن هذا بعثٌ على طلب المال.

وقال آخر:

فلو أن حياً يقبل المال فديةً ... لسقنا لكم سيلاً من المال مفعما

انتصب فديةً على الحال من المال، والمراد به الإبل لا غير، ونكر قوله حياً وهو يقصد به قصد حيٍ بعينه، لأن المراد كان مفهوماً عند من عرف القصة، فجعله كالتعريض. وقوله سيلاً مفعما والسيل يفعم به الشيء، يجوز أن يكون من باب همٌ ناصبٌ وما أشبهه، ويكون المعنى سيلاً ذا إفعامٍ، ولكن أكثر ما يجيء معنى النسبة فيما كان للفاعل، كطالقٍ ومرضعٍ. ومثله قولهم نخلةٌ موقرٌ. ويجوز وهو الأجود أن يكون عبر عن الكثرة بقوله مفعم كما عبر في قولهم شعرٌ شاعرٌ وموتٌ مائتٌ عن التناهي بلفظ فاعل، وإن كان الموت لا يموت، والشعر لا يشعر، كما أن السيل لا يفعم. وقد قيل امرأةٌ فعمة المخلخل، أي غليظةٌ كثيرة اللحم عليه. والمعنى: لو كانت معاملتنا مع حيٍ يرى قبول المال فداءً لأرضيناه بالمال الكثير.

ولكن أبى قومٌ أصيب أخوهم ... رضى العار واختاروا على اللبن الدما

يقول: ولكن امتنع قومٌ أصبنا صاحبهم من الرضا بالدنية، وآثروا طلب الدم على قبول الدية. وجعل اللبن كنايةً عن الإبل تؤدي عقلاً، لأنه منها، وكما نكر حياً في البيت الأول نكر أيضاً في الثاني قوله أبى قومٌ، والغرض بهما على حدٍ واحد، ولا يجوز أن يكون يقبل المال فديةٌ صفة لقوله حيا، لأنه يبقى أن بلا خبر. فأما قوله أصيب أخوهم فهو صفةٌ لقوله قومٌ. وقوله رضى العار العار في موضع المفعول، أي أبوا أن يرضوا العار خطةً لأنفسهم.

<<  <   >  >>