هذا الكلام دعاءٌ لنفسه وعلهيم، على طريق التسلي وقلة الاحتفال، ولأن الحاسد يرفع الخامل من الفضل وينود به. فيقول: أدام الله لي ما أنا عليه من الفضل، ولهم ما هم عليه من الحسد، ومات أكثرنا لغيظه بما يجد. وقوله " ومات أكثرنا " الأكثر هم الحسدة، لأنه - وإن أدخل نفسه فيمن أضاف الأكثر إليه - واحدٌ. وقوله " بما يجد " حذف المفعول، والمعنى بما يجده في نفسه من الحسد، أو بما يجده من النعمة والفضل عند المحسود. وحدثني أبو عبد الله حمزة بن الحسن قال: سمعت أبا الحسن علي بن مهدي الكسروي يقول: أنا قد تتبعت من دواوين الشعراء قديمهم ومحدثهم فوجدت أبا تمامٍ الطائي متفرداً بمعنى قوله:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا التخوف للعواقب لم يزل ... للحاسد النعمى على المحسود
غير مسبوقٍ إليه. وعندي أنه أخذه من فحوى لهذين البيتين وإن كان زاد عليه.
أنا الذي يجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدراً منها ولا أرد
قوله " يجدوني " كان يجب أن يقول يجدونني؛ لأن الفعل في موضع رفعٍ، لكنه حذف النون تخفيفاً. وكان يجب أن يقول لو جرى على حكم الصلة: يجدونه، حتى يكون في الصلة ضمير يعود إلى الذي. وإنما جاز أن يجيء وليس فيه ما يعود إلى الذي وإن كان صلةً له، لأن الذي خبر أنا، وهو المبتدأ شيءٌ واحدٌ، فلما كان الأول والثاني شيئاً واحداً لم يبال أن يرد الضمير الذي يجب رجوعه إلى الثاني إلى الأول. ومثل هذا ما نسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام:
أنا الذي سمتن أمي حيدره
فقال سمتن ولم يقل سمته. وقد مضى القول في مثله فيما تقدم مستقصىً، ومعنى البيت: أنا الذي صرت غصة في صدورهم قد نشبت فلا تصدر ولا ترد، أي صارت لازمةً لا تسوغ ولا تؤوب. وقوله " صدراً " مصدرٌ في موضع الحال. و " لا أرتقي " إن جعلت في صدورهم لغواً يكون في موضع المفعول الثاني، وإن جعلت في صدوهم مفعولاً ثانياً كان لا أرتقي حالا.