للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وما بي على من لان من فظاظةٍ ... ولكنني فظٌ أبيٌ على القسر

في هذه الطريقة قول الآخر:

أبيٌ لما آلى سريعٌ مباءتي ... إلى كل نفسٍ تنتحي في مسرتي

يقول: أضع كل واحدٍ من الفظاظة والسهولة، والشراسة والسلاسة، في موضعه، وأستعمله مع من يستحقه، فمن جرى معي وانقاد لي لنت له، وقابلته بمثل فعله، ومن تأبى علي وطلب مني متابعته والجري مع هواه أبيت عليه، وخالفته فيما يبتغيه. والقسر: القهر على الكره، ويقال قسرته واقتسرته، ومنه قيل للأسد قسورةٌ.

أقيم صغا ذي الميل حتى أرده ... وأخطمه حتى يعود إلى القدر

فإن تعذليني تعذلي بي مرزأً ... كريم نثا الإعسار مشترك اليسر

قوله أقيم صغا ذي الميل، تبجج فيه بأنه عارفٌ بأسرار الرجال، لطيف التوصل إلى إنزالهم منازلهم، بصيرٌ بمداواة أدوائهم، لا يتركهم سدىً، ولا يخليهم إهمالاً. والصغا: الميل والاعوجاج، يقال صغا فؤاده يصغى ويصغو، أي مال. وصغوك مع فلانٍ، أي ميلك. يقول: من مال عنا فإني أقوم اعوجاجه بما يحوج إليه من قولٍ وفعلٍ، حتى أرده إلى ما أريده، فإن تبينت فيه تعدياً لطوره، وذهاباً عن حقه وحده، زممته بزمام مثله حتى يرجع إلى مرتبته وقدره. وقوله فإن تعذليني يصف نفسه بأنه سمحٌ معطاءٌ، لا يكف عن البذل، ولا يرد عن الإعطاء والجود، على تلون الزمان به، وتغير الأحوال عليه. والمرزأ: المصاب في ماله كثيراً. وقوله تعذلي بي مرزأً، أي رجلاً مرزأً، وذلك الرجل هو هو كما يقال: لقيت بزيدٍ الأسد. والنثا: الخبر، ويستعمل في الخير والشر، والثناء لا يستعمل إلا في الخير، يقول: إن لمتني على ما هو دأبي من الإفضال، لمت بي رجلاً لا يفكر في عقب الدهر، وكروره بالغنى والفقر، فإن نابه العسر حسن بلاؤه وكرمت أخباره فيه، وإن ناله اليسر أشرك الأقارب والأجانب في نفعه، فعمت فواضله لديهم.

وقد أكثر الشعراء في هذا المعنى. فمن ذلك قول الشمردل:

وصولٌ إذا استغنى وإن كان مقتراً ... من المال لم تحف الصديق مسائله

<<  <   >  >>