الاعتماد على الفعل، وعزاءً معموله، والمصدر وقد تبع الفعل معمولاً له يؤكده لا يعمل في غيره عمله، ولا فعل معه. وقوله مترع أراد الامتلاء وزيادةً، وهو الانصباب. يقال أترعت الإناء، إذا ملأته ملأً يضيق عما يحويه حتى ينصب منه. ويقال ترع الإناء وأترع بما فيه. والمتترع: المتسرع إلى الشر المقتحم فيه، منه. وجعل الامتلاء للجفن لأنه ممسك الدمع، وأصل الجفن الحبس، لذلك قيل لقراب السيف: جفن.
نعى الركب أوفى حين آبت ركابهم ... لعمري لقد جاءوا بشرٍ فأوجعوا
نعوا باسق الأفعال لا يخلفونه ... تكاد الجبال الصم منه تصدع
أتبع ما تقدم باقتصاص نعي الركبان لأوفى، كأنه أراد أن يذكر ابتداء المصاب به ليتبين كيف توفر الجزع عليه، وكيف انصرف ما انصرف منه إلى ما تعقبه من المصاب الثاني، فيقول: ذكر الركبان موت أوفى عند إيابهم، ولعمري لقد ذكروا شراً عظيما، وأوجعوا قلباً سليماً. وقوله نعوا باسق الأفعال أعاد ذكر النعي تفظيعاً للشأن. ويقال نعى نعياً ونعياً ونعياناً، أي خبر بالموت. وقولهم: نعاء فلاناً، لفظةٌ يشهرون بها موت الرئيس. ومعنى باسق الأفعال لا يخلفونهأنهم ذكروا موت رجلٍ على الشأن، شريف الأفعال، رفيع الحكمة، هم بأجمعهم لا يقومون مقامه فيما كان يتولاه في الحي من الإحسان إليهم، والتحمل عنهم، وبسط الخير فيهم، والبسوق في الأفعال، وهو في الأصل الطول والاستكمال، ويجوز أن يكون إشارةً إلى أنه لا يدرك غايتها، فكل فعلٍ يقع من غيره إذا قيس إلى ما يأتيه يتضع دونه، وينحط عن رتبته، فلا يعلو علوه، ولا يكمل كماله. وعلى هذا قولهم: فلانٌ رفيع الفعال علي المقال. ويجوز أن يريد بالبسوق امتداد الصيت بها، وصعودها في درج تقبل الله تعالى إياها إلى السماء. وهذا كما يقال: قولك هذا يرتقي إلى الملاء الأعلى. وهذا الشعر إسلاميٌ، فلا يمتنع أن يشير فيه إلى قوله عز وجل:" إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ". وقوله " تكاد الجبال الصم منه تصدع " منقطعٌ مما قبله ويجري مجرى الالتفات، لأنه لما قال نعوا باسق الأفعال لا يخلفونه كأنه أقبل على من حوله فقال: تكاد الجبال الصم منه تصدع، ويكون الضمير من قوله منه يرجع إلى النعي، ودل عليه قوله نعوا. وهذا كما يقال: من حمد الله تعالى كان خيراً له، أي كان الحمد خيراً له. والمراد بالصم الصلاب كأنه لا خروق في أثنائها ولا تخلخل.