وأملهم الدأب حتى حفيت رواحهم، وحتى بيتوا لنزولٍ، ميلاً إلى نيل راحتهم. ويقال بيت الأمر، إذا دبره بالليل. وكل رأيٍ أجلته بليلٍ فهو مبيتٍ. وماءٌ بيوتٌ، إذا بات ليلةً في الإناء. وبيت القوم، إذا أوقعت بهم ليلاً. ويقال للهم: هو بيوتٌ، وللصقيع بيوت.
وقوله أعداء ما للعيش بعدك لذةٌ يصفه فيه بأنه كان ببليغ لطفه وجميل خلقه، وسهولة جانبه ورحابة جنابه، يطيب العيش معه على ما يعترض فيه من مساءةٍ أو مسرةٍ، إذ كان يتحمل الأعباء عمن يجاوره، ويخفف ظهر من ينصب إليه، أو يتسبب بقرابةٍ لديه، أو يتوكل لمخلةٍ عليه، فكان لذيذ الحياة يوجد عنده، وصفى البقاء يحصل معه. وقوله ولا لخليل بهجةٌ بخليل يعني أن الناس وقد رأوا مآل أمرك إلى الفناء، وانقطاع السرور عنهم بعد النماء، صار لا يبتهج بعضهم ببعضٍ، فلا يسكن الصديق إلى صديقه، ولا القريب مع قريبه، لغلبة اليأس من الخير، وارتفاع الطمع من الفرج.
وقوله أعداء ما وجدى عليك بهينٍ كرر مناداته دلالةً منه على لزوم التوجع، وتنبيهاً على حصول العناء والاشتكاء بعد التودع. ثم قال: ليس جزعي عليك بخفيف، ولا وجدي عليك بطفيف، ولا صبري لو حصل بجميل، لأن الصبر على فقدك منكر، وهون الوجد وخفته مستفظع، فليس لنا إلا الاستمرار فيما نحن بسبيله من اللهف والحسرة والاستسلام للشقاء والهلكة.
وقال أيضاً:
كأني والعداء لم نسر ليلةً ... ولم نزج أنضاءً لهن ذميل
ولم نلق رحلينا ببيداء بلقعٍ ... ولم نرم جوز الليل حيث يميل
أدخل الألف واللام ي هذه المقطوعة على العداء لأنه صفةٌ في الأصل، فهو كالحسن والعباس وما أشبههما، فإذا أتيت به ولا ألف ولام فيه فلأنك جعلته علماً، فصار معرفةً بالعلمية، وإذا أدخلت الألف واللام عليه فإنك راعيت حاله وهو صفةٌ ثم جعلتها نفس المسمى وأدخلت الألف واللام عليه. فعلى الأول لا يفيد الاسم في المسمى شيئاً أكثر من تمييزه عن غيره، وعلى الثاني أفاد معنى الوصيفة فيه مع التمييز، فصار كالصفات الغالبة الجارية مجرى الألقاب في الخصيص.