للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يريد أن داره كان مجمعاً لأناسٍ هو ينظم شملهم، ويؤلف جمعهم، فإن حزبهم من النوائب عادياتها فرقما عنهم، وإن حل بفنائهم من أثقال الزمان ما يبهظمم آساهم وتحمل عنهم. وقوله عاديات يجوز أن يكون من العداء الظلم؛ يقال عدا يعدو عدواً وعداءً وعدواناً. ويجوز أن يكون من العدو، يريد مسرعات النوائب وصادماتها. ومعنى يصدع يفرق، ومنه تصدعت الأرض بفلانٍ، إذا تغيب فاراً.

وجربت ما جربت منه فسرني ... ولا يكشف الفتيان غير التجارب

يريد أن ينبه على أن ما وصفه به لا عن تقليدٍ أو شكٍ والتباس، ولا عن تخمينٍ أو حدسٍ وقياس، بل عن تجريب واستكشاف على مر الأيام. فيقول: لم أرض منه بعفو أفعاله وما يختاره في مقاصده، بل أخذت أستدرجه وأتعرف غور مقاله وفعاله بالسبر والنظر، فلم أر إلا ما سر وآنس، وزاد في العلم به فأبهج. وقوله ولا يكشف الفتيان غير التجارب، يشبه الالتفات، كأنه أقبل بعد ما خبر، على إنسانٍ فقال: إن الفتيان تتشابه ظواهر أمورهم، ولم يخبرك عنهم مثل مجرب. ولهذا قيل في المثل السائر:

ترى الفتيان كالنخل ... وما يدريك ما النخل

بعيد الرضا لا يبتغي ود مدبرٍ ... ولا يتصدى للضغين المفاضب

قوله بعيد الرضا يريد أنه ليس بسريع الفيئة إذا سخط، لكنه يعرك أذى مجاذبه ومجاوره بجنبه، ويصبر ما أمكن، فإذا أظهر النكير، وتلقى ما يزاوله بالضجر الشديد، لم يرضه أدنى المعاذير فعل من لا حمية له ولا عزيمة. وقوله لا يبتغي ود مدبرٍ وصفه بأنه آخذٌ بالصرم إذا أحوج إليه، غير راغبٍ في الزاهد فيه. وهذا كما يقال: فلانٌ وصالٌ صروم.

وقله ولا يتصدى للضغين المغاضب معنى يتصدى أن ينظر إليه نظر غير محتفلٍ به، وكالمعرض عنه، حتى يخرجه ذلك إلى ما يطلبه. يريد أنه لا يتعرض لعدوه والمضطغن عليه، بل يتركه ينطوي على ما في صدره من غلٍ وعداوة، ولا يخرجه إلى مبادرةٍ ومكاشفة، بل يجري على المداجاة معه، منتظراً ما يكون منه،

<<  <   >  >>