اذا زارك سائل فتوفر عليه، ولين قولك وجانبك له، فإنك لاتعلم أأنت أسعد بما يناله منك أم هو، واعلم أن المحتاج إليك إن منعته سؤله وطلبته فهو حقيق بأن ينال ما منعته في غده. وقوله (أن يكون له غد) في موضع خبر عسى، والضمير من له يعود إلى السائل، والمعنى: عساه إن منعته سؤله من يوم كان عليه، أن يكون غد ذلك اليوم له، ولهذا قال الله عز وجل: وتلك الأيام نداولها بين الناس، فغد يرتفع بيكون، وله في موضع الخبر.
وقوله (وفي كثرة الأيدي لذي الجهل زاجر) يريد استبق إخوانك وذويك، واعلم أن في التكاثر بهم مزجرةً للجاهل، ولتعاون أيديهم مدفعة لأذى المغلب الخامل. ومع ذلك فالحلم أبقى شأناً وأمراً للرجال، وأرد عليهم وأنفع لهم. وهذه الوصاة اشتملت على أمرين: أحدهما اكتساب مودات الإخوان لكي يكونوا إذا احتيج إليهم عوناً. والثاني استعمال الحلم مع الأعداء، والجري معهم على حد لايخرجهم إلى المكاشفة، ولا يحوجهم إلى خرق الهيبة. وقوله (من اليوم سولا) يقال: أعطى فلان سوله، فيهمز ولا يهمز.
وقال آخر:
إياك والأمر الذي إن توسعت ... مداخله ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
انتصب (والأمر) بفعل مضمر. وإياك ناب عن أحذرك، فكأنه قال: أحذرك أن تلابس الأمر الذي إن توسعت موالجه ضاقت عليك مخارجه. والمعنى: تأكل كل ما تلابسه، واعرف أواخره وإن اشتبهت، كما تعرف أوائله وإن تبينت، لأنه يقبح بالمرء أن يكون فيما يقتحمه عند نفسه معذوراً، وعند الناس ملوماً.
وقوله (فما حسن أن يعذر المرء نفسه) في إعراب (أن يعذر) وجوه: أحدها أن يرتفع بالابتداء وخبره متقدم عليه، وهو حسن، لأن ما النافية إذا قدم خبره على اسمه يبطل عمله. ويجوز أن يكون موضعه رفعاً بفعله وفعله حسن، ويرتفع حسن بالابتداء، ويستغنى بفاعله عن خبره، وجاز الابتداء بحسن وإن كان نكرةً لاعتماده على حرف النفي. والمعنى: ما يحسن عذر المرء نفسه فيما يتولاه