يقول: كنت قوى النفس، ثابت القلب، راجح العقل، صبوراً في الشدائد، قبل أن بليت بفراق الأحبة، فلما أوقدت نيته التي انتوها نار الصبابة على كبدي فأبطأ سكونها ضعفت عن الثبات لها، وظهر عجزي عن تحمل أعبائها، وقد كنت أؤمل إذا أتت الأيام على ما أقاسيه، واستمرت النفس في التألم تارة وفي التصبر أخرى، أن يتنقص ذلك صبابتي، وأن قدم الأيام وانحاء العهود يؤثر في تسكين نائرتها، ويبطل ما تسلط على من أذاها ومكروعها. وقوله (إذا قدمت) ظرف لتوت صبابتي.
فقد جعلت في حبة القلب والحشا ... عهاد الهوى تولى بشوق يعيدها
يريد أن ما كان يرجوه من سكون صبابته قد ازداد، لأنها صيرت في حبة القلب وأحشائه أمطار الهوى، تجدد وتتبع بولي من الشوق يردها كما كانت، وانتصب (عهاد) على أنه مفعول أول لجعلت. وتولى بشوق في موضع المفعول الثاني، ويعيدها في موضع الصفة للشوق. ومعنى (تولى) تمطر الولى. والولى المطرة الثانية لأن الأولى منها تسمى الوسمى. والعهاد: جمع العهد، وهو المطر الذي يجيء ولما تقدمه عهد باق لم يذهب. وحبة القلب هي العلفة السوداء في جوفه. ويورى (عهاد الهوى - بالرفع - يولى - بالياء - بشوق بعيدها، بالباء) ، فيكون معنى جعلت طفقت وأقبلت، ويكون غير متعد، ويرتفع عهاد بجعلت، وبعيدها يقوم مقام فاعل يولى. فيكون المعنى: فقد طفقت أوائل هواها يمطر أبعدها بشوق يجددها.
مخصرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها
يمنيننا حتى ترف قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طل يجودها
الباء من قوله (بسود نواصيها) يجوز أن يتعلق بقوله تموت صبابتي، ويجوز أن يتعلق بجعلت إذا ارتفع عهاد الهوى به يريد: جعلت العهاد تفعل هذا بسبب نساء هكذا. وإنما جاز أن يجمع سود وحمر وغيرهما وإن ارتفع ما بعدها بها، لأن هذه