واستطلاعهم من جهتي ما أنا عليه، وإفراطهم في التعجب مما يجدونني مبتلي به، ومرهوناً له كأنهم لم يشاهدوا قبل مشاهدتهم لي، ولابعد مشاهدتهم لي محباً، وكأن الحب شيء أنا ابتدعته، وكأن مسبباته لم توجد قط إلا في. وليس الأمر كذلك، لأن الدنيا وأهلها إذا تؤملت أحوالهم فيها لم يعوز تقديراً أو تحصيلاً من حاله حال مثلي فيه زائداً على ما أنا عليه، أو قاصراً عنه. هذاإذا جعلت (لم يروا) بمعنى لم يشاهدوا. فإن جعلته بمعنى لم يعلموا كان المعنى أكشف وأبين، إلا أنه يكون بمعنى يعرف، ويكتفي بمفعول واحد. وقوله (بعدي) أي بعد رؤيتهم لي، وقوله (يا عجباً) يجوز أن يكون منادى مضافا، ويجوز أن يكون مفرداً، وقد تقدم القول فيه وفي أشباهه.
يقولون لي اصرم برجع العقل كله ... وصرم حبيب النفس أذهب للعقل
يقول: يشير الناس علي بالتسلي عنها، ةالأخذ في مصارمتها، وأخذ النفس على الانفكاك منها، فإن في ذلك يزعمهم إذا تدرجت فيه مراجعة العقل كاملا، وانتزاع ربقة الذل عاجلاً. وإذا تأملت حالي في قبول ما يشيرون به وركوب الجد في قطيعتها، والحيلولة بين النفس ومرادها فيها، وجدت ذلك أدعى إلى زوال العقل كله، وإن كان الباقي منه شفافةً، وأجلب لهلاك النفس، وحرج الصدر، وإن كنت عائشاً بصبابة. وقوله (أذهب للعقل) قد تقدم القول في أن سيبويه يجوز بناء فعل التعجب بعد الثلاثي مما كان على أفعل خاصة، فإذا جاز ذلك فبناء التفضيل يتبعه.
ويا عجبا من حب من هو قاتلي ... كأني أجزيه المودة من قتلى
تعجب من حال نفسه في مقاساة ما يقاسى منا، وبقائه على حبها فيقول: إني أداوم اعتقاد الجميل لها، وقيام القلب بعمارة الهوى فيها، حتى كأني أجازيها على قتلها إياي بأن أزيد في ودها وإخلاص العقيدة لها. وقوله (من قتلى) أراد من قتلها لي. والمصدر يضاف إلى المفعول كما يضاف إلى الفاعل، وكذلك قوله (من حب من هو قاتلي) أي من حبي من هو قاتلي، لأن من في موضع المفعول. وقوله (يا عجبا) يجوز أن يكون الألف بدلاً من ياء الإضافة ويجوز أن يكون ألف الندبة وزيدت ليمتد الصوت به، ويكون يا عجب منادى مفرداً، وامتداد الصوت يدل على عظم البلية، وتفخيم أمر العجيبة.