المشترى، وأخذه منه، ولم يزل واقفاً حتى أحضر الطفل، وسلّم إليها، فأخذته وبكت بكاء شديدًا وضمته إلى صدرها، والناس ينظرون إليها ويبكون، فأرضعته ساعة. ثم أمر بها السلطان فحُملت على فرس، وألحقت بعسكرهم. فانظر إلى هذه الرحمة الشاملة والشفقة الكاملة، وانظر إلى شهادة الأعداء له بالرقة والكرم والرأفة والرحمة.
ومليحة شهدتْ لها ضرَّاتها … والحسن ليس لحقه من ناكرٍ
قال قاضى القضاة بهاء الدين: وفى ذلك اليوم وصل ظهير الدين بن البلنكرى، وكان مقدماً من أمراء الموصل، وصل مفارقاً لهم طالباً خدمة السلطان. ولما عاد السلطان إلى مخيمه، لم يمكث إلا ساعة حتى وصل إليه الخبر بتجديد الزحف على عكا، فعاد وركب من ساعته وسار نحو البلد، فوصل وقد انفصل الحرب بدخول الليل بين الطائفتين (١).
ذكر كيفية أخذ العدو مدينة عكا من يد السلطان قسراً
لما كان صبيحة يوم الثلاثاء التاسع من جمادى الأولى، بلغ السلطان أن الإفرنج قد ضايقوا البلد، وركَّبوا عليه المناجيق، فأمر الجاووش أن يصيح بالناس، وركب وركب لركوبه العسكر فارسهم وراجلهم، وسار حتى أتى الخروبة.
وقوى اليزك بتسيير جماعة من العسكر إليهم، فلم يخرج العدوّ، واشتد زحفهم على البلد، فضايقهم السلطان مضايقة عظيمة حتى قاتلهم قتالاً شديدًا. وهجم عليهم في خنادقهم، ولم يزل كذلك حتى عادوا عن الزحف ظهيرة نهار [١٠٩] الثلاثاء المذكور. وعاد السلطان إلى خيمة لطيفة ضربت له هناك يستظل بها من الشمس، فنزل لصلاة الظهر والاستراحة ساعة، وقوّىَ اليزك، وأمر الناس بالعود إلى المخيم لأخذ شيء من الراحة. فبينما هو كذلك إذ وصل من اليزك من أخبر أن القوم قد عادوا إلى الزحف، لما أحسوا بانصراف السلطان عنهم، أشد ما كانوا أولاً، فأمر العسكر بالعود إلى جهة العدو أطلابا أطلابا. وبات هو -رحمه الله - وجميع العسكر على تعبئة القتال.
(١) ورد هذا النص بتصرف في النوادر السلطانية، ص ١٥٨ - ١٥٩.