للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذكر تخريب عسقلان (١)

ثم استخار السلطان، فأوقع الله في قلبه أن المصلحة في تخريبها لعجز المسلمين عن حفظها عن الإفرنج، فاستحضر الوالى بها - يُدْعي قيصر - من كبار مماليكهـ وذوي الآراء منهم، فأمره أن يضع فيها المعاول، وذلك في سحرة ليلة الخميس التاسع عشر من شعبان، وقسم السور على الناس، وجعل لكل أمير وطائفة من العسكر بدنة معلومة، وبرجًا معلومًا يخربونه، ودخل الناس البلد ووقع فيه الضجيج والبكاء، وكانت بلدة نضرة حسنة خفيفة على القلب، محكمة الأسوار، عظيمة البناء، مرغوبًا في سكنها، فلحق الناس حزن عظيم، وعظم عويل أهلها وبكاؤهم على مفارقة أوطانهم، وشرعوا في بيع ما لا يمكن حمله، وبيع ما يساوي عشرة دراهم بدرهم واحد، ورمي الناس أقمشتهم بالثمن البخس حتى بيع [اثنا] (٢) عشر طيرًا من الدجاج بدرهم واحد. واختبط البلد، وخرج أهله إلى العسكر بذراريهم ونسائهم خشية [١٢٥] أن يهجم الإفرنج البلد، وبذلوا في الكرى أضعاف ما يُساوي، فقوم إلى مصر، وقوم إلى الشام، وقوم يمشون لم يقع لهم كراء، وجرت أمور كثيرة وبليَّة عظيمة لعلها لم يكن مثلها. وكان السلطان بنفسه وولده الملك الأفضل يستعملان الناس في التخريب والحث عليه، خشية أن يسمع الإفرنج فيحضرون ولا يمكن تخريبها، وبات الناس على أشد حال من التعب والنصب.

وفي تلك الليلة، حضر من الملك العادل مَنْ أخبر أن الإفرنج تحدثوا معه في الصلح، وأن ابن الهنفري جاء إليه وتحدث معه في ذلك. فرأى السلطان أن ذلك مصلحة لما رأى في أنفس الناس من الضجر والملالة من القتال والمصابرة، وكثرة ما علاهم من الديون، وكتب إليه يسمح له في الحديث في ذلك، وفوَّض أمر ذلك إليه. وأصبح يوم الجمعة العشرين من شعبان على الإصرار على التخريب واستعمال الناس فيها. وأباح لهم الهُرْي (٣) الذي كان ذخيرة في البلد، للعجز عن نقله وضيق الوقت والخوف من لحوق الإفرنج. وأمر بتحريق البلد، فأضرمت النيران في البيوت والآدر، فاضطرمت النيران فيها، وأرمي الناس غالب أقمشتهم للعجز عن نقلها.


(١) عن تخريب عسقلان انظر: النوادر، ص ١٨٧ - ١٨٨؛ الكامل، جـ ١٠، ص ٢٠٧ - ٢٠٩؛ النجوم الزاهرة، جـ ٦، ص ٤٦ - ٤٧.
(٢) "اثني" كذا في الأصل. والصحيح لغويًا ما أثبتناه.
(٣) الهُرْي: جمع الأهراء، وهي حواصل لخزن أنواع الغلال المتنوعة. وتعرف الأهراء في مصطلحنا الحديث بالشونة. انظر: صبح الأعشى، جـ ٤، ص ٣٣؛ ابن مماتي: قوانين الدواوين، ص ٣٥٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>