وهنا كانت تعد له طعامه .. وهناك كانت تلاعبه وتسعى لإضحاكه عندما تقوده خطواته الصغيرة إليها باكيًا .. وفي هذا المكان كان يستحم بيديها.
أيها البيت الصامت كالحداد لم يعد هناك صوت .. أيها البيت الصامت لم يعد هناك أم .. لم يعد هناك آمنة .. إنها ترقد هناك بالأبواء .. فيا للوعته ولهفه ويا حر قلبه عليها.
ربما تنبه ليلة فلم يجدها بقربه ففاضت عيناه بالدمع .. وألجمه الحزن والحنين إليها .. أو ربما كان يسأل جده وأعمامه عنها فيتجرعون الصمت .. وتفيض أعينهم شفقة عليه وحزنًا، فتتيه عنهم الإجابة .. إن للطفل أسئلة ملحة ومحرجة .. فكيف بأسئلة طفل مفجوع أصابه الدهر بأبيه وأمه .. يسأل عنها ومتى ستعود وإلى أين ذهبت .. وهل ستتركه وحيدًا أم سيذهب إليها .. أسئلة كلها بث وانكسار متى ما حاصرتك خفضت رأسك وبكيت.
لقد تعلق بها رغم أنه لم يحظ بقربها إلا سنوات قليلة .. مر ذات يوم بقبرها فرئي له بكاء لم يبكه من قبل .. يقول بريدة رضي الله عنه: (انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رسم قبر فجلس، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب، ثم بكى فاستقبله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال:
يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال:
هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في أن أزور قبرها، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها، فأبى عليها، وأدركتني رقتها فبكيت.