والذين ضاقت بهم الدنيا واسودت بوجوههم وضاقوا بأنفسهم .. ها هو: أحدهم الشاعر المؤمن كعب بن مالك الذي بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة العقبة والذي انشغل وتردد حتى فاتته الغزوة وهو في المدينة الآن يصف شعوره طوال تلك الأيام التي أمضاها بين جدران يشعر بأنها تحاول خنقه .. وهواء يشعر بأنه لا يريد الدخول إلى رئتيه .. وأرض تضيق به .. وأعذار لا قيمة لها ولا رصيد ..
كعب بن مالك يروي قصته الطويلة الدامية في تلك الأيام السوداء فيقول: "غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال وتجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئًا، فأقول في نفسي أنا قادرٌ عليه، فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد فأصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئًا .. فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئًا ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئًا فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو وهممت أن أرتحل فأدركهم وليتني فعلت فلم يقدر لي ذلك .. فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلًا مغموصًا عليه النفاق أو رجلًا ممّن عذر الله من الضعفاء .. ولم يذكرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك ما فعل كعب؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله .. حبسه برداه ونظره في عطفيه .. فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت .. والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كعب بن مالك فلما بلغني أنه توجه قافلًا