للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (١) وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى الْكَعْبَةِ، فَلَزِمَهُ التَّوَجُّهُ إلَى عَيْنِهَا، كَالْمُعَايِنِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَظَاهِرُهُ أَنَّ جَمِيعَ مَا بَيْنَهُمَا قِبْلَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْفَرْضُ إصَابَةَ الْعَيْنِ، لَمَا صَحَّتْ صَلَاةُ أَهْلِ الصَّفِّ الطَّوِيلِ عَلَى خَطٍّ مُسْتَوٍ، وَلَا صَلَاةُ اثْنَيْنِ مُتَبَاعِدَيْنِ يَسْتَقْبِلَانِ قِبْلَةً وَاحِدَةً، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى الْكَعْبَةِ مَعَ طُولِ الصَّفِّ إلَّا بِقَدْرِهَا. فَإِنْ قِيلَ: مَعَ الْبَعِيدِ يَتَّسِعُ الْمُحَاذِي. قُلْنَا: إنَّمَا يَتَّسِعُ مَعَ تَقَوُّسِ الصَّفِّ، أَمَّا مَعَ اسْتِوَائِهِ فَلَا. وَشَطْرَ الْبَيْتِ: نَحْوَهُ وَقِبَلَهُ. (٢)

وقال القرطبي رحمه الله: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْكَعْبَةَ قِبْلَةٌ فِي كُلِّ أُفُقٍ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ شَاهَدَهَا وَعَايَنَهَا فُرِضَ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُهَا، وَأَنَّهُ إِنْ تَرَكَ اسْتِقْبَالَهَا وَهُوَ مُعَايِنٌ لَهَا وَعَالِمٌ بِجِهَتِهَا فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَعَلَيْهِ إِعَادَةُ كُلِّ مَا صَلَّى. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ غَابَ عَنْهَا أَنْ يَسْتَقْبِلَ نَاحِيَتَهَا وَشَطْرَهَا وَتِلْقَاءَهَا، فَإِنْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ مَا يُمْكِنُهُ مِنَ النُّجُومِ وَالرِّيَاحِ وَالْجِبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى نَاحِيَتِهَا. وَاخْتَلَفُوا هَلْ فَرْضُ الْغَائِبِ اسْتِقْبَالُ الْعَيْنِ أَوِ الْجِهَةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِمَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْجِهَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّل: أَنَّهُ الْمُمْكِنُ الَّذِي يَرْتَبِطُ بِهِ التَّكْلِيفُ. الثَّانِي: أَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (٣) وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ" يَعْنِي مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شَرْقٍ أَوْ غَرْبٍ". الثَّالِثُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ احْتَجُّوا بِالصَّفِّ الطَّوِيلِ الَّذِي يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ أَضْعَافُ عَرْضِ الْبَيْتِ. (٤)

وقال أبو الحسن عبيد الله الرحماني المباركفوري: قال العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي: إن المراد بقوله: ما بين المشرق والمغرب قبلة، أن الفرض على المصلى إذا كان بعيداً عن الكعبة أن يتوجه جهتها، لا أن يصيب عينها على اليقين، فإن هذا محال أو عسير انتهى. وقال العراقي: ليس هذا عاماً في سائر البلاد، وإنما هو بالنسبة إلى المدينة المشرفة وما وافق قبلتها، قال: ولسائر البلدان من السعة في القبلة مثل ذلك بين الجنوب والشمال ونحو ذلك. وقال الأثرم: سألت أحمد عن معنى الحديث فقال: هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إن زال عنه شيئاً وإن قل فقد ترك القبلة، ثم قال: هذا المشرق وأشار بيده وهذا المغرب وأشار بيده وما بينهما قبلة. قلت: فصلاة من صلى بينهما جائزة؟ قال: نعم. وينبغي أن يتحرى الوسط. قال ابن عبد البر: وإنما تضيق القبلة كل الضيق على أهل المسجد الحرام، وهي لأهل مكة أوسع قليلاً، ثم هي لأهل الحرم أوسع قليلاً ثم لأهل الآفاق من السعة على حسب ما ذكرنا. (٥)


(١) سورة البقرة آية رقم: ١٤٤.
(٢) يُنظر "المغني" لابن قدامة المقدسي ٢/ ١٠١.
(٣) سورة البقرة آية رقم: ١٤٤.
(٤) يُنظر "تفسير القرطبي" الجامع لأحكام القرآن ٢/ ١٦٠.
(٥) يُنظر "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" ٢/ ٤٢٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>