فإن قيل: ما فائدة قوله وإن نأت بي الدار عنهم؟ قلت: أراد أنه لا يشكرهم مقارضاً ولا طامعاص فيؤثر فيما هو الغرض فيه فرب الدار وبعدها، بل يؤدي حق نعمة، ويقضي لازم فريضة وقوله لما حم يجوز أن يكون ظرفاً لأكرموا. ومعنى حم فدر.
هم يفرشون اللبد كل طمرة ... وأجرد سباح يبذ المغاليا
طعامهم فوضى فضاً في رحالهم ... ولا يحسنون السر إلا تناديا
كأن دنانيراً على قسماتهم ... إذا الموت للأبطال كان تحاسيا
ذكر ما شاهدهم عليه في مجاورتهم، ويجرون عليه في عاداتهم ومصارفهم، وينتقلون فيه أوقات حفلهم، وعند خلوتهم، وقيما ينوبهم من نائبة تخصهم أو تهمهم. فقوله يفرشون اللبد بضم الياء، أي يجعلون اللبد فراشاً لظهر كل رمكة وثابة، وكل فحل كريم سباح في عدوه، غلاب لمباريه في الغلو، سباق في الرهان يحوز قصب التقدم والعلو.
ويقال: ى فرشت الفراش وأفرشنيه فلان، وافترشت الأرض والمرأة. وروى بعضهم: هم يفرشون بفتح الياء، وقال: أراد يفرش للبد على كل طمرة، فحذف الجار. قال: ويقال فرشت ساحتي الآجر وبالآجر.
وقوله يبذ المغاليا إن ضممت الميم جاز أن يراد به السهم نفسه أو فرس يغاليه. وجاز أن يراد به الرافع يده بالسهم يريد به أقصى الغاية. ويقال: بيني وبينه غلوة سهم، كما يقال قيد رمح وقاب قوس. وإن فتحت الميم يكون جمعاً للمغلاة، وهي السهم يتخذ للمغالاة. والمعنى يسبق في غلوته. ومراد الشاعر أن سعيهم مقصور على تفقد الخيل وخدمتها، والتفرس على ظهورها. وقوله طعامهم فوضى فضاً فوضى من فوضت الأمر إليك. والفضا من فضت الأرض، إذا اتسعت؛ ومنه الفضاء، وأفضيت إليه بكذا. والمعنى أن الطعام عندهم وفيهم لا يكال ولا يوزن، ولا يقتسم ولا يفرز، بل يأكله في رحالهم كل من احتاج إليه، غير ممنوع عنه. وقوله ولا يحسنون السر إلا تنادياً، أي لا ريبة في أقوالهم وأفعالهم فيخفضوا الصوت بما يتخاطبون به، فعلى هذا يكون تنادياً مستثنى، ويكون التقدير: لا يحسنون السر لكنهم يتنادون. ويجوز أن يكون تنادياً في موضع