أشار بهذا إلى أن مطامعهم الخسيسة ترديهم، وإسفافهم لها يعرضهم للقتل ويهلكهم، فقال: هذا داؤهم لا يقتلون إلا به، ولأن حين كان حائنٍ فيما يغلب به وعليه. ويجوز أن يريد أنه لما ترفع القصاص عنهم عند وقوع الجرائر منهم، كانت القتلة الكريمة فيهم أزهد، وعنهم أبعد، ولا يموتون إلا بدائهم الذي هو اللؤم. والموت قد يسمى قتلاً. وإنما أدخل هذه الأبيات في الباب لقوله " قومٌ إذا ما جنى جانيهم أمنوا " فلما ذكر من يجتهد في إدراك الثأر من جهته تيسر أو تعسر، ذكر أيضاً ما يضاده ممن يرغب عنه ويزهد في النيل منه، ترفعاً عن مكافأته. وهذا عادته في إتباع الشيء بضده، فأعلمه.
وقال آخر:
ألا أبلغا خلتي راشداً ... وصنوى قديماً إذا ما اتصل
قديماً، انتصب على الظرف لقوله خلتي. والمراد: أبلغا خليلي قديماً راشداً، وصنوى إذا ما انتسب. والصنوان: الفرعان يخرجان من أصلٍ واحدٍ. ويقال للأخوين هما صنوان، تشبيهاً بذلك، ولعم الرجل صنو أبيه. ويقال صنوٌ، وصنوانٌ في التثنية، وصنوانٌ في الجميع، ولا يعرف له نظير إلا قنوٌ. فيقول: راشدٌ خليلي القديم، ونسيبي القريب، فأبلغاه عني رسالةً. وفي جمعه بين خلتي وصنوي، وتأخيره قديماً إذا ما اتصل، ما ذكره أبو العباس المبرد رحمه الله، من أن العرب تلف الخبرين لفاً، ثم ترمى بتفسيرهما جملة، ثقة بأن السامع يرد إلى كل ما له.
بأن الدقيق يهيج الجليل ... وأن العزيز إذا شاء ذل
الباء دخل للتأكيد، وموضع أن مفعول ثانٍ من أبلغا. فيقول: أبلغاه أن صغير الأمور يجني الكبير، وأن العزيز من الرجال متى أراد عاد ذليلاً، بأن يعدو طوره، ويشتغل بما لا يهمه. ومثل هذا قولهم:" الشر يبدؤه صغاره "، وقول شاعرهم: