وتحقيقاً لما شكاه من ريب الزمان، وبعثاً على التسلي، وأخذ النفس بالتأسي. فيقول: إن كانت الأيام دارت فينا بالنعماء مرةً وبالبأساء أخرى - وهذا عادة الدهر وحوادثه - فما غيرت منا شيئاً.
فما لينت منا قناةً صليبةً ... ولا ذللتنا لذي ليس يجمل
ذكر القناة مثلٌ، وقد مضى الكلام في مثله. وأبين ما يستشهد به في اسعارتها للإباء والتشدد قوله:
كانت قناتي لا تلين لغامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساء
وهذا البيت بيانٌ لفائدة الصبر الذي دعاه إليه، وبعث نفسه عليه، لأن الصابر على الشدائد حقيق بألا يتذلل لما لا يحسن به، ولا تجمل الأحدوثة فيه عنه، وألا يتلين لما كان يتصلب له من قبل. فإن قال قائلٌ: فإذا كان غاية الصبر ومعناه هذا، فإلى أي شيء دعا نفسه بقوله: تعز فإن الصبر بالحر أجمل؟ وقد خبر عن نفسه بأنه آخذ بما هو حقيقته؟ قلت: يجوز أن يكون معنى " تعز " دم على التعزي، ويكون بناء الأمر لما هو الحال، ولا يريد استئنافه، كما أن قول الله عز وجل:" يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله " معناه دوموا على الإيمان. ويجوز أن يكون أمر نفسه في المستقبل بما كان عادتهم في المستقدم.
ولكن رحلناها نفوساً كريمةً ... تحمل ما لا يستطاع فتحمل
يجوز أن يكون معنى رحلناها رحلنا لها نفوساً، والضمير للحوادث، ويكون هذا كقولهم كلتك وكلت لك، ووزنتك ووزنت لك، ويكون نفوساً مفعولاً لرحلنا. ويجوز أن يكون الضمير أعنى ضمير المنصوب في " رحلناها " للنفوس، على أن يكون مفعولاً. وأتى بالضمير قبل الذكر، ثم جعل قوله نفوساً بدلاً منها، على طريق التبيين. وقوله " ولكن " حرفٌ يستدرك بها بعد النفي، فيكون المعنى ما تذللنا للنوائب