للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولكن هيأنا لها نفوساً تأنف من الرضا بالدنية، فلا تنسى كرمها، وتكلف أمور لا تنهض بها فتتكلفها. وفي وصف النفوس بالكرم إشارةٌ إلى الظلف والعفة، والتأبي من المخزية، ومجانبة الريبة، والنفور من كل قبيحة. ولذلك قال الله عز وجل في صفة المختارين من عباده المزكين: " والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراماً ". فأما قوله: " رحلناها " في الاستعارة، فكما يقال استحملت فلاناً نفسي، وركبتني ظلاماتٌ وما أشبهها. وحكى: هو يرحله بما يكرهه، أي يركبه؛ ولا رحلتك بالسيف، أي لا علوتك.

وقال آخر:

وكم دهمتني من خطوبٍ ملمةٍ ... صبرت عليها ثم لم أتخشع

يقول: مراراً كثيرة فاجأتني خطوبٌ شديدةٌ، ونزلت بي، فحبست نفسي عليها، وتجلدت لها، فلم يظهر في مناظري خشوعٌ، ولا بدا من جوارحي خضوع. وموضع كم على هذا التأويل ظرفٌ. " ومن " على طريقة الأخفش تكون زائدة، لأنه يجوز زيادة " من " في الواجب، ويستدل من المسموع بقول بعضهم: " قد كان من مطرٍ فخل عني " وبغيره. فكأنه قال: كم مرةً دهمتني خطوبٌ كثيرة. ويكون قوله صبرت عليها صفةً للخطوب. ويجوز أن يكون كم في موضع الابتداء، ومن خطوب هو بيانٌ له، وقد فصل بينهما بخبره، وهو دهمتني، وتقديره كم من خطوبٍ دهمتني، أي كثيرٌ من الخطوب. فأما فائدة العطف بثم من قوله " ثم لم أتخشع " فهو إبانة الاستمرار في الصبر، وإن طالت المهلة إلى أن انكشفت تلك الملمات العارضة وانفرجت. ومعنى دهمتني: فاجأتني، ومنه الدهم ودهماء الناس.

فأدركت ثأري والذي قد فعلتم ... قلائد في أعناقكم لم تقطع

يقول: أصبت ما طلبته، وتقاضيت به ممن كان لي عنده ثأر أو وترٌ، فاستنزلته عنه، وما فعلتم من القعود عن نصرتي، وخذلاني فيما نابني لزمكم، فكأنها قلائد وأطواقٌ لا تنحل عنكم ولا تنقطع. وهذا تحقيقٌ للزوم العار لهم فيما أتوا. ومثله قول بشر:

وقلدها طوق الحمامة جعفر

<<  <   >  >>